نيويورك - قلّلت دوائر سياسية أميركية من أهميّة إعادة فتح ملف أحداث 11 سبتمبر 2001 أمام القضاء الأميركي، على العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، وعلى الخطط الاستثمارية الضخمة التي تجمع الطرفين بتمويلات تقدّر بمئات المليارات من الدولارات. وجاء ذلك بعد إعلان قاض أميركي رفضه إسقاط دعاوى بالولايات المتحدة تتهم الرياض “بالمساعدة” في التخطيط للهجمات الدامية التي خلّفت الآلاف من الضحايا بين قتلى وجرحى، وتطالبها بتعويضات. ولم يتردّد البعض في طرح أسئلة بشأن مغزى فتح الملف بالتزامن مع الزيارة التي يقوم بها ولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان إلى الولايات المتحدة والتي وصفت بالتاريخية بالنظر إلى النتائج التي ستترتّب عنها لجهة دفع التعاون الأميركي السعودي الاقتصادي والسياسي والأمني إلى مديات لم يبلغها من قبل. وقال دبلوماسي أميركي متقاعد سبق له العمل في منطقة الشرق الأوسط والخليج، طالبا عدم ذكر اسمه “إنّه لا يمكن منع أحد من الارتياب في توقيت إعادة فتح الملف”، مستدركا بأنّه لا يقصد “التشكيك بنزاهة القضاء الأميركي بقدر التنبيه إلى أنّ قضية من هذا القبيل من الصعب أن تنفصل عن التشابكات السياسية ومساعي دوائر متضاربة المصالح للضغط ومحاولة تحصيل المكاسب”. وقال جورج دانيالز القاضي بالمحكمة الجزائية الأميركية في مانهاتن بنيويورك إن مزاعم رافعي الدعاوى “توفر أساسا معقولا” له لتأكيد الاختصاص بنظر القضيّة بموجب قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب الصادر في عام 2016. وتنفي الحكومة السعودية بشكل قطعي الضلوع في الهجمات الدامية التي أسفرت عن مقتل قرابة 3000 شخص. ويشمل قرار دانيالز دعاوى رفعتها أُسر القتلى ونحو 25 ألف مُصاب وعدد من الشركات التجارية وشركات التأمين. غير أنّ القاضي نفسه رفض في قرارين مزاعم مُقدمي الشكوى ضد مُدعى عليهم آخرين من بينهم بنكان سعوديان وإحدى شركات البناء الضخمة العائدة ملكيتها لأسرة سعودية شهيرة. وكانت محكمة منهاتن برئاسة القاضي دانيالز نفسه، قد رفضت في يناير الماضي دعاوى ضدّ السعودية تقدّمت بها شركات تأمين وذوو ضحايا الهجمات. وطالب القاضي بتقديم أدلة واضحة. وخلصت المحكمة إلى أنه “لا مسؤولية للحكومة السعودية على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولا توجد أدلة على ذلك”. فتح ملف تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر بالتزامن مع الزيارة التاريخية التي يقوم بها ولي العهد السعودي إلى الولايات المتحدة يثير أسئلة مراقبين، ليس على سبيل التشكيك في حيادية القضاء الأميركي، لكن في اتجاه التنبيه إلى أن القضية كلّها ذات أبعاد وتشابكات تجعلها عرضة للتوظيف من قبل دوائر متضاربة المصالح سعيا للضغط وتحصيل المكاسب ومع صعوبة الربط المباشر بين القرار الجديد للقاضي دانيالز وأي دوافع أو صراعات سياسية، إلاّ أنّ أصل القضية كلّها والحرص على الزجّ باسم السعودية في أحداث 11 سبتمبر يبقى سياسيا بامتياز. ذلك أنّ ما فتح الباب لمقاضاة المملكة هو قانون شرّع في عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تحت مسمّى “قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب” المعروف اختصارا بـ”جاستا”. لكن القانون أثار مخاوف بما يمكن أن يمثله من مخاطر على العلاقات الدولية لما ينطوي عليه من انتهاك لسيادة الدول كونه يمنح قضاء دولة ما محاكمة دول أخرى لا يوجد أي مانع من أن ترد بالمثل، الأمر الذي سيقود إلى فوضى في علاقات الدول بعضها ببعض. كما أن تعلّق القانون بالإرهاب من شأنه أن يضعف تعاون الدول في مواجهة الظاهرة المتنامية والمهددة لمختلف بلدان العالم ومناطقه. وطال القلق من تبعات القانون المذكور قسما هاما من الطبقة السياسية الأميركية بفعل ما يمكن أن يمثّله من تهديد لمصالح الولايات المتحدة مع حلفاء كبار لها على غرار السعودية. وبلغت الاعتراضات على القانون في الداخل الأميركي حدّ محاولة مشرّعين أميركيين تعديله، وهو المسعى الذي جسّده اثنان من زعماء السياسة الخارجية بالكونغرس ومن الحزب الجمهوري، وهما السيناتوران لينزي غراهام وجون مكين اللذان أعلنا عزمها تعديل القانون باتجاه تضييق نطاق الحالات الموجبة لرفع الدعاوى القضائية المحتملة ضد الدول. وقال القاضي دانيالز إن بوسع مقدمي الشكاوى محاولة إثبات أن السعودية مسؤولة عن الأنشطة المزعومة لفهد الثميري إمام مسجد الملك فهد في كاليفورنيا وعمر البيومي الذي يُقال إنه ضابط مخابرات. ويتّهم الاثنان بمساعدة اثنين من منفذي الهجمات على بدء الإعداد لها. وتؤكّد الرياض إن رافعي الدعاوى لا يمكنهم إثبات أن أي مسؤول أو موظف أو ضابط سعودي خطط أو نفذ الهجمات. ويذهب سعوديون إلى القول إنّ المملكة لا تخشى أصلا من المضي في القضيّة لوثوقها التّام من خلوّها لأي إثباتات ضدّها. واحتاجت العلاقات الأميركية السعودية بعد رحيل الإدارة الديمقراطية عن البيت الأبيض إلى عملية إعادة تصحيح للمسار بعد أن بلغت درجة من الفتور غير مسبوقة في عهد أوباما. وسرعان ما قاد ولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان مع الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب عملية التصحيح تلك، متجاوزين إعادة الحرارة للعلاقات بدفعها إلى مدار جديد من التعاون الاستراتيجي. ولا تخلو الساحة الأميركية، بحسب مراقبين، من لوبيات مرتبطة بدول معادية للسعودية وتعمل باستمرار على عرقلة مسار التعاون الجديد بين واشنطن والرياض لخشيتها من تأثيره على تلك الدول. وبدا خلال الفترة القريبة الماضية أنّ السعودية والولايات المتّحدة توجّهان جهودهما المشتركة لمعالجة ملف حسّاس ومهمّ لهما وللكثير من بلدان الشرق الأوسط والعالم، وهو مواجهة محاولات التمدّد الإيراني، وما يصاحب تلك المحاولات من توتّرات وصراعات تهدّد الأمن والسلام الإقليمي والدولي. وبالنظر إلى حجم المصالح الكبيرة التي تجمع بين واشنطن والرياض والآخذة في التزايد، يبدو لمراقبين أنّ إثارة قضية 11 سبتمبر تظل هامشية وضعيفة التأثير على علاقات البلدين.
مشاركة :