الحرف.. حوار دائم مع البصر

  • 4/2/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

محمد ولد محمد سالم اختارت اللجنة المنظمة للدورة الثامنة من ملتقى الشارقة للخط العربي التي تنطلق اليوم، شعارا دالاً وذا معنى بعيد الغور، وقيمة أصيلة في فن الخط، وهو كلمة «جوهر» التي تدل على كنه الشيء وحقيقته، فالجوهر من كل شيء هو الأساس الذي يشكل للجسم أو المادة ما هي عليه فعلا، وبه تملك ضرورة وجود حتمية، ويقابل الجوهر «العرض» وهو البنية الخارجية أو الجسم الظاهر من كل شيء، وبعكس هذا العرض الخارجي القابل للتغير نظرا لتأثير العوامل الخارجية فيه، فإن الجوهر لا يتغير ولا يتبدل، لأنه الضامن لوجود الشيء وهويته وتميزه واستقلاليته، ولذلك فإن الشكل من دون مضمونه أو جوهره الذي يقوم عليه لا تكون له قيمة.إن مفهوم «جوهر» شعار موفق، لأنه يلفت الانتباه إلى كنه الخط العربي كظاهرة فنية وثقافية ارتبطت بالحضارة العربية الإسلامية، وعكست «جوهر» القيم الفنية والجمالية لتلك الحضارة، وما ارتبط بذلك الجوهر من تجليات عرضية سمحت له بالتطور المستمر، والتفاعل الدائم مع مختلف المفهومات والظواهر الحضارية الفنية للشعوب التي بسط فيها الإسلام نفوذه، والاستفادة منها على اختلافها في صياغة أشكال ورؤى جديدة تتماشى مع ذلك الجوهر الذي ظل ثابتا، وكانت حصيلة ذلك الاحتكاك تاريخ هائل من التنوع الخطي، يزيد على مئتي نوع من الخطوط العائدة إلى مختلف المناطق الإسلامية، أعطت لفن الخط العربي قوة واستمرارية، ربما، لم يشهدها فن من الفنون البصرية في العالم.إن أساس فن الخط العربي هو الحرف العربي، وجوهر هذا الحرف هو تعاقب الحركة والثبات فيه، فكل حرف ثابت في شكله الأصلي الذي وضع عليه، ليميزه عن غيره من الحروف، لكنه في الوقت نفسه قابل للتزويق والتدوير والالتفاف حول نفسه، بحيث تشكل تلك التحويرات حركة تتفاعل مع الأصل الثابت وتضيف إليه، ومن هذا التفاعل ينتج الإيقاع الذي يمثل حالة جمالية آسرة، وإذا انتقلنا من الحرف إلى الكلمة ثم إلى الجملة، هناك، نصل إلى مستويات أخرى من الجمال تقوم في جوهرها على التماثل والتكرار، والتوازن والتقابل، والظل والنور، حيث يعيد الخطاط توزيع الفضاء حول الحروف والكلمات، وينشئ هياكل وتركيبات، بهدف الوصول إلى توازن مرئي، يبدو لعين الناظر كالموسيقى في أذن السامع، وتوفر أشكال الحروف المتنوعة وأحجامها المختلفة، ومرونتها القياسية، وما يضيفه لها التشكيل والزخرفة، إمكانات لا نهائية للخطاط لكي يبدع ما يسعفه به خياله الخصب من لوحات فنية عالية الجمال، وهذه الإمكانات اللامحدودة هي سر استمرار هذا الفن، وسر الإبداع المتواصل فيه، فمع كل لوحة جديدة يخلق الخطاط أشكالا جديدة من الإبداع.لا يتوقف جوهر فن الخط العربي على تلك العمليات الفنية الشكلية وحدها، بل يتجاوزها إلى مستوى ثالث هو مستوى جمال المعنى، فالنصوص النموذجية في هذا الفن هي جواهر الكلم، لأنها إما أن تكون من القرآن وإما من الحديث الشريف أو من حكم الشعر والنثر ومأثور القول البشري الذي يصفي الروح ويسمو بالأخلاق ويرفع الهمة لمعالي الأمور، والفنان المسلم يدرك بقوة إيمانه وحصافة عقله أنه أمام جواهر من المعاني، ويبحث لها عن مبانٍ تناسبها، وهنا يستحث خياله للوصول إلى الكمال الفني في التحام المبنى بالمعنى، واتحاد الشكل مع المضمون، فتكون الصورة الظاهرة بما يتراءى منها من حركية وسكون، وتماثل وتكرار، وتوازن وتقابل، وظل ونور عاكسة بقوة لذلك المعنى الذي تضمره الجملة.انطلاقا من تلك المستويات الثلاثة لجوهر الخط العربي، فإن اختيار مفهوم «جوهر» شعارا لهذه الدورة، هو دعوة مفتوحة للخطاطين العرب والمسلمين، والأجانب على اختلاف ثقافاتهم، وخلفياتهم الحضارية، للتفكير حول هذا المفهوم في ارتباطه بالخط العربي، وانفتاحه على الفنون المجاورة له، وعلى فنون العالم بشكل أوسع، وما يمكن أن يحفزه ذلك الشعار من تصورات ورؤى فنية تتوازى أو تتقاطع مع تلك المستويات الثلاثة للخط العربي، ولا يمكن حصر تلك التصورات والرؤى، سواء بقينا على مستوى الحرف ومرونته المنتجة للحركة، فيجد فنانو النحت والتصميم في الحرف العربي إمكانات لا حصر لها للإبداع، وإضافة الجديد، وهناك جهود كثيرة تبذل في هذا المضمار، أما على مستوى الكلمة والجملة وما تتيحه أبنيتهما من تكوينات بصرية لا حصر لها، فيجد فيها فنانو الرسم والتشكيل والتلوين ما يشغل خيالاتهم ويحفزها على الجديد، ولن تكون تمثلات الشكل للمعنى بأقل حظوة من المستويين السابقين عند المقاربة من فنانين يمتلكون مخيلات إبداعية ويستطيعون فك رموز ودوالّ المعنى وصولا لدلالاته العميقة.إن استنفار ملكات الفنانين العرب والعالميين بهذا المفهوم المحفز هو أيضاً لفت للانتباه إلى الخط العربي كممارسة تحقق كل شروط الفن الأصيل، الذي يجمع بين الجوهر القارّ والشكل المتجدد، وترويج له في الأوساط الفنية العالمية لكي يفعل ويتفاعل مع فنون العالم، ويصبح فنا عالميا متاحا لممارسة فنانين من غير أهله، وهذا الهدف السامي هو أحد الأهداف النبيلة التي قام عليها ملتقى الشارقة للخط العربي، كمنصة دولية للخط، وانطلاقا منه كانت كل الشعارات السابقة التي طرقتها دورات الملتقى (مثل: كون، تعارف، نقطة) دعوة مفتوحة للتفكير حول الخط العربي، وإقامة حوار معه.

مشاركة :