إسطنبول – يجلس زعماء روسيا وتركيا وإيران اليوم في إسطنبول على طاولة واحدة لوضع ملامح المرحلة المقبلة من الصراع في سوريا. ورغم أن الآلية نفسها تجمعهم كأكبر الأطراف العسكرية على الأرض، يذهب الرؤساء إلى هذه القمة بأجندات متناقضة. طموح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بات يتخطى طرد قوات سوريا الديمقراطية من منطقة غرب الفرات، ووصل إلى محاولة تجميع كل الفصائل الإسلامية المتشددة في مناطق خاضعة لسيطرة تركيا، سعيا لإعادة تأهيل الغالبية السنية، التي واجهت أكبر درجات القمع في الحرب المستمرة منذ سبعة أعوام. أهداف بعيدة المدى بات مئات الآلاف من النازحين السنة مكدسين في محافظة إدلب، شمال غرب سوريا، حيث تم ترحيل مقاتلي هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) وحركة أحرار الشام وتنظيم فيلق الرحمن وفصائل أخرى تحظى بدعم أنقرة. كما تم ترحيل مقاتلين ينتمون إلى “جيش الإسلام” وفقا لاتفاق قضى بخروجهم من مدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية إلى مدينة جرابلس، حيث تتمركز قوات تركية وأخرى تابعة للجيش السوري الحر. في نفس الوقت ينتشر الملايين من اللاجئين السنّة في دول مجاورة، كلبنان والأردن ومصر، لكن العدد الأكبر منهم مازال في تركيا، التي تخطط لإعادتهم مرة أخرى إلى سوريا، لكن في المناطق التي تقع تحت سيطرة تنظيمات تحظى بدعم تركي. رؤساء روسيا وإيران وتركيا يستطيعون الابتسام أمام الكاميرات في إسطنبول، لكنهم مازالوا يسيرون على زجاج سوريا المكسور وعملية “إعادة تأهيل السنة” كانت منطلق تركيا الرئيسي للموافقة والتوسط في عمليات ترحيل قسري لعشرات الآلاف من سكان مدينة حرستا ومنطقة جنوب الغوطة، في الأسابيع الماضية. وهدد أردوغان مرارا بدخول مدينتي تل رفعت ومنبج، اللتين تسيطر عليهما قوات كردية. ويحاول الرئيس التركي عبر هذه المقاربة السيطرة على مربع كامل يمتد من عفرين إلى إدلب، حيث يحاول خلق مجتمع سني جديد من اللاجئين. ويقول نيك باتون وولش، المحلل الأميركي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، إن “الملحق المسكوت عنه لهذه الخطة هو الاتفاق مع الأميركيين على الإبقاء على قوة نارية ونفوذ كبيرين في شرق الفرات، بغرض الحفاظ عليه ككيان كردي لسنوات قادمة”. وعلى عكس ما يفكر فيه أردوغان، يطمح نظيره الإيراني حسن روحاني إلى تأكيد انتصار الجيش السوري والميليشيات الشيعية المساندة له، من أجل الانتقال إلى المرحلة المقابلة في الرؤية الإيرانية، التي تقوم على عملية إحلال وتبديل ديمغرافية في محيط دمشق، تشبه عمليات مماثلة أشرف عليها الحرس الثوري الإيراني من قبل في حلب، وفي قرى الفوعة وكفريا ومضايا والزبداني. وستساعد عمليات التغيير الديمغرافي إيران كثيرا في تعزيز نفوذها في سوريا، ضمن صراع صامت مع روسيا حول جني الثمار في المناطق المحررة من فصائل المعارضة، وهي ثمار تتمثل خصوصا في مكاسب اقتصادية واستثمارات في قطاعات الفوسفات والنفط والغاز والاتصالات والموانئ البحرية والبنية التحتية. ويقول محللون كثر إن الإيرانيين “استثمروا المليارات من الدولارات في دعم الرئيس السوري بشار الأسد ليس ليتركوه لاحقا خلفهم ويرحلوا، ولكن للبقاء أطول فترة ممكنة في سوريا”. ويدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي سيحضر القمة بدوره، ذلك جيدا. لكنه يبدو منشغلا أكثر من أي وقت مضى بتحركات عسكرية أميركية على الأرض حول مصادر الطاقة في شرق سوريا وقرب الحدود مع العراق. أنشأت الولايات المتحدة 20 قاعدة عسكرية في شمال شرق سوريا، وفي مناطق متفرقة في الشرق والجنوب، كما قالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إنها تفكر في إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى سوريا، بعد أيام قليلة من إعلان الرئيس دونالد ترامب على موقع تويتر أن الولايات المتحدة “ربما تسحب قواتها من سوريا قريبا”. وأقلق ذلك حلفاء واشنطن في المنطقة كثيرا، إذ من شأن هذه الخطوة ترسيخ مشروع الطريق الواصل من طهران إلى بيروت، الذي عكفت إيران على إنشائه طوال الأعوام الماضية. كما سيؤدي الانسحاب الأميركي، إن حدث فعلا، إلى فتح الطريق أمام إيران للضغط على إسرائيل وتهديدها بشكل غير مسبوق. يتخوف مخططون استراتيجيون في واشنطن من مصير الحضور الأميركي في العراق، حيث تسعى الولايات المتحدة جاهدة لامتصاص نفوذ إيراني طاغ على الطبقة السياسية العراقية، ولرسم ملامح العراق في مرحلة ما بعد داعش، ولإعادة التوازن إلى العلاقة بين بغداد والأكراد. كما سيؤدي الخروج الأميركي إلى دفع الأكراد إلى المظلة الروسية خشية من أي مواجهة مع تركيا من الممكن أن يخسروا على إثرها غالبية المناطق التي لا تزال تقع تحت سيطرتهم في شرق الفرات. لكن هذا الإعلان يصب حتما في صالح الروس، الذين ينتباهم شعور متزايد بأنهم تكبدوا الكلفة الأكبر في الحرب، منذ تدخل القوات الروسية في الصراع عام 2015، دون حصد مكاسب تذكر إلى الآن. وبات الأميركيون يسيطرون على 95 في المئة من مصادر الطاقة في البلاد، إلى جانب 30 في المئة من مساحة سوريا، بالتعاون مع الأكراد. ويضع هذا التوزيع الجغرافي روسيا في مأزق، إذ تمكنت من الحصول على عقود حصرية للاستثمار في قطاعي النفط والغاز، ولإنشاء شركة اتصالات جديدة، كما سيطر رجال أعمال روس على قطاع التعدين. لكن ليس من الممكن لكل هذه الاستثمارات أن تتم بنجاح طالما ظل الأميركيون مسيطرين على أكثر المناطق الاستراتيجية وأهمها في سوريا. ووجدت روسيا نفسها سريعا في موضع إدارة الحرب، دون أن تملك الأدوات اللازمة لإنهاها. كما تعكس أهداف شريكيها، تركيا وإيران، أن الحرب في سوريا مازالت تقف عند أبعد نقطة من نهايتها. ومن أكثر التحديات التي باتت تقف حائلا أمام التوصّل إلى أي حل سياسي قريب، هو أن ثمة اتفاقا بين القوى الثلاث المجتمعة اليوم على اعتماد الحل العسكري، وتهميش تسويات جنيف، التي يديرها الغرب بشكل عام. لكن في تفاصيل الحل العسكري المتوافق عليه، تكمن عوامل الصدام بين أطرافه. فمحافظة إدلب، التي تعوّل عليها تركيا كثيرا في المستقبل لفرض رؤيتها إلى مستقبل سوريا، هي الهدف التالي لقوات النظام السوري، الذي لا يريد أن تتحول المحافظة إلى ورقة مساومة مع الغرب لاحقا. ونظرا لكونها معقلهم الأخير، من المتوقّع أن يظهر المسلحون الإسلاميون المحاصرون فيها أقصى درجات العنف والمقاومة، وهو ما قد يقود إلى كارثة إنسانية جديدة. لكن مشكلة الحل العسكري هي أنه يتجاهل الأسباب التي قامت على أسسها الثورة ضد حكم الأسد عام 2011. فالغالبية السنية، التي شكلت يوما أكثر من 70 في المئة من تعداد السكان في سوريا، مازالت غير ممثلة في الحكم، كما يعيش أغلب أبنائها في الشتات في دول مجاورة، أو في خيام ومعسكرات لاجئين ومدن مدمرة على الأراضي السورية، أو تتكدس بهم محافظة إدلب. وطالما بقي السنّة مهمشين، لن يكون هناك مخرج لجميع الأطراف من هذا الصراع، الذي يبدو لا نهائيا. ويقول محللون إن روسيا لا تريد أن يتحول الصراع في سوريا إلى مستنقع لا مخرج منه، في وقت تحقق فيه الولايات المتحدة مكاسب جمة دون بذل أي تضحيات. لكن روسيا مازالت تدعم خطط واشنطن لحصار النفوذ الإيراني، وهو نفوذ ترى موسكو أنه كفيل بضمان عدم استقرار سوريا لعقود. وفي الوقت الذي يحاول فيه الروس توظيف التحالف الظرفي القائم مع تركيا لضمان التقدم الاستراتيجي على الأرض، بما في ذلك الانتصارات العسكرية وعمليات إخراج المسلحين والمدنيين من مناطقهم، دون عراقيل، إلى جانب الدفع باتجاه تصعيد المواجهة بين تركيا وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لا يزال الجنرالات الروس قلقين من أن تقود الرؤية التركية إلى الإصطدام بطموح الأسد بالقضاء على جيوب المعارضة، الواحد تلو الآخر. ويصنع هذا الواقع على الأرض من روسيا وتركيا وإيران حلفاء وخصوما في نفس الوقت، في علاقة ملتبسة يبدو أن الإدارة الأميركية عاكفة على جعلها أكثر التباسا. ويقول نيك باتون وولش “رؤساء روسيا وإيران وتركيا يستطيعون الابتسام أمام الكاميرات في إسطنبول، لكنهم مازالوا يسيرون على زجاج سوريا المكسور”.
مشاركة :