تتيح قدرة نادرة جداً للبعض تذكّر معظم أيام حياته بتفاصيل دقيقة واضحة. تتذكّر ماركي باسترناك بدقة متى أدركت أن دماغها مختلف. حدث ذلك في 26 أغسطس عام 2014 في مستهل سنتها الثالثة في جامعة ماركيت في ويسكونسن في الولايات المتحدة. جلست في صف يُدعى «التعلّم والذاكرة»، وهو مقرر في علم النفس يوضح طريقة تعلّم الإنسان وأنواع الذاكرة المختلفة. وقفت البروفسورة الدكتورة كريستي نيلسون إزاء الطلاب مراجِعةً المنهج الدراسي لذلك الفصل. وأكّدت لهم أنهم إذا أنهوا المواد المطلوبة، فسينتقلون إلى «المواضيع المرحة». تشمل هذه المواضيع مناقشة حالات أناس يتمتعون بذاكرات مذهلة على نحو استثنائي، مثل مَن يستطيعون عزف الموسيقى معتمدين بالكامل على ذاكرتهم أو وضع خريطة مدينة كاملة بعد زيارتها مرة واحدة. كذلك قد يتطرقون إلى موضوع جديد نسبياً في علم النفس: مَن يستطيعون تذكّر كل يوم من حياتهم. فكّرت باسترناك أن هذا الأمر ينطبق عليها، فهي تستطيع القيام بذلك. تُعتبر ماركي باسترناك، التي بلغت اليوم الثالثة والعشرين من عمرها، أحد الأشخاص الأصغر سناً بين مَن يتمتعون بذاكرة سيرة ذاتية خارقة (HSAM)، وهي حالة نادرة يعانيها نحو 60 شخصاً فقط حول العالم. حدِّد لها أي تاريخ بين عام 2005 ويومنا هذا، فتخبرك في أي يوم من الأسبوع كان ذلك التاريخ وكل ما قامت به في ذلك اليوم بالتفصيل الممل. على سبيل المثال، في 11 ديسمبر عام 2006، انشغل والدها بمشاهدة فريق «شيكاغو بيرز» في مباراة كرة قدم ليلة الاثنين وقطع رأس شجرة العائلة لعيد الميلاد بدل جذعها. وفي ذلك التاريخ عينه من عام 2009 (يوم جمعة)، أشرفت على حفلة راقصة في المدرسة، ثم خرجت مع الأصدقاء. ولكن قبل صف علم النفس ذاك، كانت هي وكل مَن عرف بقدرتها هذه يعتبرونها «مجرد حيلة ممتعة تستطيع ماركي القيام بها». تخبر باسترناك: «سألتُ مدرّسة علم النفس في المدرسة الثانوية عما إذا كانت تملك معلومات عن ذاكرتي، فأجابتني بالنفي. لكنها ظنت أن من الممتع أن أشارك في برنامج ديفيد لاترمان». قدّم باحثون في جامعة كاليفورنيا-إيرفاين تقريراً عن أول حالة معروفة من ذاكرة السيرة الذاتية الخارقة في عام 2006، ويعملون على درسها منذ ذلك الحين. عند تحديد حالة محتملة من ذاكرة السيرة الذاتية الخارقة، يُجري الباحثون اختبارين بغية التأكد من تشخيصهم. أولاً، يقدّمون للمشارك تواريخ عدة (مثل 25 يونيو 2009) وعليه أن يتذكّر حوادث مهمة وقعت في كل يوم من تلك الأيام (كان يوم خميس، وفي ذلك اليوم توفي مايكل جاكسون). وإذا نجح المشارك في هذا الاختبار، ينتقل إلى الاختبار الثاني. يختار محرك عشرة تواريخ عشوائياً. وينبغي للمشارك أن يحدد في أي يوم من الأسبوع وقع كل تاريخ، وذكر حوادث يمكن التثبت منها حصلت في كل منها، ووصف معالم كل اليوم، مثل حالة الطقس. بتوصية من مدرّستها في الجامعة، خضعت باسترناك لهذين الاختبارين عبر الهاتف يوم الاثنين الواقع فيه 9 مارس عام 2015. وحصلت على علامة 9 من 10، علماً بأن هذا معدل مَن يملكون ذاكرة سيرة ذاتية خارقة. يبلغ معدل مَن لا يتمتعون بذاكرة مماثلة 2 من 10. «كاندي لاند» يتّبع مَن يملكون ذاكرة سيرة ذاتية خارقة أساليب مختلفة في تذكّر التواريخ. تشبّه باسترناك ذاكرتها بلوح من لعبة Candy Land اللوحية. ففي عقلها، ترى كل شهر كمربع بلون مختلف: يونيو أخضر، وأغسطس أصفر ذهبي، ونوفمبر أحمر داكن... وتترابط الأشهر معاً لتشكّل مساراً يمتد إلى فبراير عام 2005 عندما امتلكت للمرة الأولى ذاكرة سيرة ذاتية خارقة. عندما تبلغ الشهر المطلوب في السنة المناسبة، تركّز على المربع وتتخيل كل أسبوع كرسم بياني على شكل فطيرة من سبعة مثلثات. ولتحدد في أي يوم من الأسبوع وقع تاريخ معين، تذهب في البداية إلى تاريخ تعرفه جيداً. على سبيل المثال، إذا سألتها عن 17 فبراير عام 2011، تتذكر أولاً يوم الاثنين 14 فبراير عام 2011. توضح باسترناك: «أعرف ذلك التاريخ لأنه يوم عيد العشاق. أعرف برفقة مَن كنت في يوم عيد العشاق ذاك وماذا حدث، ثم أعمل على جمع الأجزاء معاً. وهكذا أتذكر ماذا حدث في أيام الثلاثاء، والأربعاء، والخميس التي تلته». تحتاج باسترناك إلى الوقت لتعود إلى تلك الذكريات، إلا أنها تتوصل في النهاية إلى تذكّر الأحداث بالتفاصيل المملة. تقول: «لا يمكنني بكل بساطة تذكر الأشياء. لا تسير الأمور على هذا النحو. علي أن أراها. علي أن أعود إلى تلك المرحلة وأعيشها، وإلا فلن تؤثر فيّ». لذلك تُعتبر هذه الذاكرة ذاكرة سيرة ذاتية. فلا يستطيع مَن يملكون ذاكرة سيرة ذاتية خارقة تذكّر أحداث لم يسمعوها أو يختبروها شخصياً. على سبيل المثال، تتذكر باسترناك أن المغني توم بيتي توفي في 2 أكتوبر عام 2017، إلا أنها تربط وفاته بالثالث من أكتوبر حين سمعت ذلك الخبر وأمضت يومها كله في الاستماع إلى أغنيتَي Among Wildflowers وFree Fallin. هدف ومعنى تشارك باسترناك في دراسات، وعمليات مسح على شبكة الإنترنت، ومقابلات هاتفية مع فريق بحث جامعة كاليفورنيا-إيرفاين مرات عدة في السنة. وهكذا تكتشف تفاصيل إضافية عن حالتها وتلتقي آخرين يتمتعون بالقدرة ذاتها. لكن الأكثر أهمية على الأرجح أن ذلك أعطاها هدفاً ومعنى لما اعتبرته طوال فترة موهبة لا فائدة منها. يعتقد الباحثون أن مَن يملكون ذاكرة سيرة ذاتية خارقة يختبرون حالة مناقضة تماماً لمرض ألزهايمر، وأن اكتشاف الاختلافات البيولوجية في أدمغة مَن يتمتعون بذاكرة سيرة ذاتية خارقة ربما يسهم في علاج الألزهايمر، والكآبة، وغيرهما من أمراض الصحة العقلية. تختم باسترناك: «سررت كثيراً حين اكتشفت أنني أملك ذاكرة سيرة ذاتية خارقة. وهكذا صار بإمكاني الإسهام في هذا الكم المتنامي من الأبحاث التي قد تبدّل حياة كثيرين».
مشاركة :