القاهرة - تدور الفكرة الرئيسية للفيلم السوري “طعم الأسمنت” لمخرجه زياد كلثوم والذي تم عرضه مؤخرا في القاهرة ضمن العروض المميزة التي يقدّمها مركز “سيماتك” لعشاق السينما المستقلة، حول ما يعنيه أن تعمر بلدا آخر في حين يتم تدمير بلدك. بين نقيضين يصوّر الفيلم عمّالا سوريين يعملون في موقع بناية شاهقة في بيروت، هؤلاء العمال هم مجموعة من النازحين العالقين في لبنان بسبب الحرب، واضطرتهم وطأة العيش إلى العمل في ظل ظروف قاسية، فحياتهم مقسمة بين العمل نهارا والمبيت ليلا داخل غرفة أسفل البناية الشاهقة التي يعملون فيها. ويلقي فيلم “طعم الأسمنت” الضوء على مأساة النازحين السوريين في لبنان والصعوبات التي يتعرضون لها، خاصة هؤلاء الذين يمتهنون مهنة البناء والتشييد، فممنوع عليهم التجوّل في بيروت بعد ساعات العمل، إذ تحظر السلطات اللبنانية على العمال السوريين التجوال في المدينة ليلا. كيف يمكن التعبير سينمائيا عن الغربة والنزوح عن الوطن؟ يفرض هذا التساؤل نفسه إزاء موجة الأفلام التي تم إنتاجها على خلفية الحرب السورية منذ اندلاع الثورة حتى اليوم، أعمال كثيرة ظهرت خلال الأعوام الماضية، القليل منها فقط استطاع الولوج إلى قلب المأساة الحقيقية للنازحين السوريين، ومن بين أبرز هذه الأفلام يأتي فيلم المخرج السوري زياد كلثوم “طعم الأسمنت” الحائز على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته الرابعة عشرة، كما استحق الفوز أيضا بجائزة الفيلم الأوروبي كأفضل فيلم وثائقي إذًا نحن هنا أمام عالم من الرجال المهمّشين يعمرون بيوتا، بينما تدمّر بيوتهم، هذه المفارقة التي ينطوي عليها سياق الفيلم ترتبط بعدد آخر من المفارقات التي استطاع العمل التأكيد عليها بصريا، فمشاهد الدمار والتخريب في المدن السورية تتداخل مع مشاهد البناء، وصوت البحر يشبه صوت القصف، كما يتداخل هدير آلات البناء مع صوت الآليات العسكرية، ورائحة الأسمنت تحت أنقاض البيوت المنهارة هي نفسها رائحة الأسمنت الذي يستخدمه عمال البناء في تشييد البنايات. ويحتوي الفيلم على مشاهد بانورامية لمدينة بيروت كما تبدو من أعلى لعمّال البناء، وهي مدينة مغلقة أمامهم، لا يستطيعون اكتشافها، ترافق الكاميرا عمّال البناء وهم يعملون على ارتفاعات شاهقة، حيث تعرض صورا بانورامية للمدينة تحبس الأنفاس. وفي مقابل هذه الصور الواسعة، ثمة لقطات أخرى قريبة تصوّر هؤلاء العمّال في رحلة صعودهم إلى أعلى، فرغم هذه الرحلة المحفوفة دائما بالمخاطر ترسم المشاهد صورة بصرية شاعرية تذكرنا بالتجارب المبكرة للسينما السوفيتية. ونشاهد هنا صورا للمعدات والرافعات الثقيلة، وواجهات البناية الضخمة، وغابة كثيفة من حديد التسليح، وفي الخلفية تبدو المدينة في هيئة رمادية تشي بامتناعها عن هؤلاء العمّال الذين يعمّرونها. سرد بصري يعتمد الفيلم كمعظم الأعمال الوثائقية على التوفيق بين نصين أحدهما بصري والآخر سردي، ولعل التوفيق بين النصين في مثل هذه الأفلام يمثل إشكالية على درجة كبيرة من الأهمية، فمسألة التوفيق بين النصين داخل العمل الوثائقي تبدو أحيانا محفوفة بالمخاطر، فقد تطغى الصورة على السرد، وقد يعوق السرد أحيانا مسار الصورة البصرية، والنص السردي الذي اختاره زياد كلثوم هنا هو نص بالغ الرهافة، ما أتاح له نسج صوره على نفس القدر من الشاعرية التي يتمتع بها النص. وفي هذا النص الذي صاحب الفيلم كتعليق صوتي نجد أنفسنا أمام حكاية تقليدية لرجل يحكي قصة طفولته وشبابه، وكيف أن أباه عامل البناء قد نزح من سوريا إلى لبنان منذ عقود ليعمل في مجال البناء حتى رحيله، وها هو الابن يسير على نفس الدرب، ولكن بوقائع مختلفة وأشد قسوة. تقترب الكاميرا كثيرا من وجوه الرجال، فنلمح في عيونهم صورا لمشاهد الدمار التي خلفوها وراءهم، وتبدو الصور تامة الوضوح في مقابل الضبابية التي تلف المكان، فهؤلاء العمال السوريون هم سجناء في الحقيقة، لا يملكون سوى النظر إلى خارج عالمهم، أو إلى ذكرياتهم الأليمة. أما التأطير الدقيق للكاميرا والتعامل غير التقليدي للمشاهد -إضافة إلى النص السردي الشاعري- فقد أتاحا مكونات مبتكرة لعمل سينمائي جريء وصعب. واستطاع المخرج توظيف المشاهد المتتابعة بمهارة لخلق سيمفونية بصرية تراوح بين الهدوء الشديد والتصاعد الحاد، ما خفّف من وطأة السياق الخالي من الأحداث، إذ لا يتضمن الفيلم أحداثا كثيرة، فخلافا للنص الذي تتم قراءته كتعليق، يكاد الفيلم يخلو من أي حوار تقليدي، كما استطاع كلثوم استخدام الصورة والصوت بمهارة ليدخلنا في خضم حياة تعطّلها سنوات من الصراع. وفي الفيلم لا يجد العمّال وسيلة أخرى لقضاء وقتهم في المساء سوى التحلّق حول شاشة التلفزيون، أو التطلّع إلى صور الحرب المشتعلة في بلادهم عبر الهاتف، صور كثيرة مؤلمة للحرب السورية تتقاطع مع صور أخرى لا تقل عنها إيلاما لوجوه العمّال المتطلّعين إلى وطن يدمّر، بينما هم عالقون في غربتهم ومحاصرون برائحة الأسمنت. و”طعم الأسمنت”، هو العمل الثالث للمخرج زياد كلثوم، وهو من مواليد عام 1981، قدّم أول أفلامه الوثائقية في عام 2009 تحت عنوان “أيها القلب” عن المرأة الكردية والذي تم منعه من العرض في سوريا، ثم أعقبه فيلمه الثاني “الرقيب الخالد” عام 2013، والذي فاز بجائزة أفضل فيلم من مهرجان هيئة الإذاعة البريطانية للأفلام العربية.
مشاركة :