بدأت تتحول دولنا الخليجية من مرحلة النظام الحكومي للرعاية الصحية، والتي تلغي مسؤولية المواطن في هذه الرعاية، وتحمل مسؤوليتها وكلفتها كاملة على الحكومة، إلى نظام الضمان الصحي الشامل، الذي سيتشارك مسؤوليات الرعاية الصحية فيه المواطن والقطاع الخاص والحكومة، وذلك بمحافظة المواطن على صحته بالتغذية السليمة، وتجنب السمنة والتدخين والمشروبات الكحولية التي تتلف خلايا المخ وتسرع من الخرف العقلي، مع رياضة المشي يوميا نصف ساعة، والتخفيف من الانفعال والقلق، باتباع أساليب حياتية سليمة، مع مشاركته بجزء صغير من الكلفة لمنع الهدر والاستغلال، وبحسب إمكانياته المالية. وليلعب القطاع الخاص دوره في توفير رعاية صحية أخلاقية جيدة ومنخفضة الكلفة، لتتفرغ الحكومة لتنظيم هذه الرعاية أخلاقيا وكلفة بمستوى جيد، وفي الوقت نفسه لمنع استغلالها من المريض أو القطاع الخاص، وخاصة مع زيادة عدد السكان، وارتفاع نسب السمنة والأمراض المزمنة، كمرض السكري والضغط والسرطان والجلطة القلبية والسكتة الدماغية. وقد يكون فهم تجربة اليابان في الضمان الصحي الشامل تجربة مفيدة لدولنا الخليجية. لقد استفادت اليابان من مآسي خلافاتها وحروبها، ووعت بعد معاناة طويلة بأن التطور الاقتصادي يحتاج إلى الأمان الداخلي والسلام الخارجي، وبأن الأمان الداخلي يتحقق بالحرية المسؤولة للتعبير، وديمقراطية متزنة للسلطات، كما يحتاج السلام الخارجي إلى احترام حقوق الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والعمل المتناغم معها، من خلال الأمم المتحدة. وقد نجحت اليابان، في تقدم شعبها، بالعمل على مسارين مرتبطين بالمواطن والاقتصاد، فوفرت للمواطن حاجياته المادية والمتمثلة في الغذاء والجنس والمسكن، وضمان الصحة والتعليم والتعطل والتقاعد. ووفرت حاجياته النفسية والمتمثلة في الأمان، والعمل المنتج الذي من خلاله يبدع المواطن، ويخدم بلده ومجتمعه، ويشبع حاجيات الأنا العليا النفسية والروحية، كما طورت اقتصادها بالتكنولوجيا الحديثة، وربطت نجاحها الاقتصادي بسعادة شعوبها، كما تفهمت ضرورة ربط تطور مجتمعها وسعادته بصحة المواطنين، ولذلك اهتمت بالرعاية الصحية، وآمنت بأن العقل السليم في الجسم السليم، كما يقي العقل السليم من ثورية الانفعال والتطرف، وبأن تكنولوجيا الإبداع المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تحتاج الى هذا العقل المبدع. وتحمل الشعب الياباني مسؤوليته مع حكومته لتوفير رعاية صحية متميزة، فتفهم أهمية الوقاية، فاهتم بالتغذية الصحية والرياضة، وتجنب البذخ والهدر، بينما عملت الدولة على توفير الرعاية الصحية المتطورة تكنولوجيا، كما خلقت اليابان مسؤولية تناغمية جميلة بين القوى الفاعلة في الرعاية الصحية، والممثلة بالمواطن من جهة، والقوى الصحية العاملة، وتجار وصناع الأجهزة والأدوية من جهة أخرى، ولتتوسطهما سلطات التنفيذ، وبنود القوانين، وتشريعات البرلمان. وقد أدى نجاح اليابان في تجربتها الصحية إلى ارتفاع متوسط عمر الفرد الى أربعة وثمانين عاما، فهي الأولى بين دول العالم، لتتصدر بذلك دول العالم في انخفاض نسبة وفيات الأطفال في السنة الأولى إلى 1.8 لكل ألف من الولادات الحية، كما استطاعت أن تحافظ على انخفاض كلفة الرعاية الصحية الشاملة للفرد، والتي تصل إلى أربعة آلاف وخمسمائة دولار سنويا، والتي تعتبر أقل بالنصف من الكلفة بالولايات المتحدة. والسؤال لعزيزي القارئ.. كيف استطاعت اليابان أن تحقق هذه المعجزة مع أن 26.5% من شعبها يتجاوز الخامسة والستين، ومن المعروف أن كلفة الرعاية الصحية لهذه الفئة العمرية ترتفع الى ثلاث أضعاف متوسط الكلفة؟ لقد حاولت اليابان أن تستفيد من تجارب دول العالم في تطوير خدماتها الصحية. فقد طورت تكنولوجيتها الطبية بالاستفادة من خبرات الولايات المتحدة، كما استفادت من التجربة البريطانية في الرعاية الوقائية، وحسنت رعايتها العلاجية بدمج الخبرات الألمانية مع الطب التقليدي، الذي أخذته من الصين في القرن السادس. واعتمدت فلسفتها الصحية على مبدأ ديمقراطية الرعاية الصحية، والممثلة في أهمية دور المواطن في التخطيط والوقاية والانضباط في الاستفادة من الرعاية الصحية، وباهتمام الدولة بتوفير الرعاية الصحية الشاملة والعادلة لكل مواطن، وبحرية اختيار المواطن طبيبه ومركز علاجه، بالإضافة إلى التعاون بين الشعب والدولة لتوفير المال اللازم لتمويل الضمان الصحي الوطني لجميع المواطنين. كما نظمت الحكومة مسؤوليتها في الرعاية الصحية بتنفيذ الأنظمة والقوانين، وحافظ القضاء على صرامة المحاسبة للمخالفين والمخطئين، ولعب البرلمان دورا مهما في وضع التشريعات اللازمة لتنظيم الرعاية الصحية، كما حولت مسؤولية توفير الرعاية الصحية للمتخصصين في المراكز العلاجية المختلفة الخاصة، بينما ضمنت الدولة توافر التأمين للرعاية الصحية لكل مواطن. وقد لازمت اليابان الاهتمام بالوقاية مع توفير الرعاية العلاجية، فطورت الثقافة الصحية المدرسية، واهتمت بتوافر الغذاء الصحي في الأسواق والمطاعم، وحافظت على الثقافة التقليدية بقلة الأكل وغناء محتوياته، ووفرت الفرص اللازمة لممارسة الرياضة المباشرة وغير المباشرة، فلا يستعمل المواطن الياباني السيارة عادة للذهاب الى العمل، بل يعتمد على مواصلات القطار، لقلة الكلفة وسرعة الوقت، والتي تحتاج يوميا إلى حوالي ساعة واحدة من المشي، وهي ضعف المدة من الرياضة التي يحتاج إليها الفرد يوميا. كما تقدم المنشآت الصحية والطبية والرعاية اللازمة وتحافظ على أخلاقياتها، واستقلاليتها عن الدولة ولكن تحت إشراف الحكومة، كما تتسلم كلفة العلاج من مشاركات الضمان الصحي. ويجبر القانون الياباني المواطن على الانضمام الى الضمان الصحي العام الشامل. وقد استطاعت اليابان بهذه السياسات أن ترضي المواطن والأطباء والمستشفيات والشركات التجارية، كما تخلصت الحكومة من مسؤولية إدارة الخدمات الصحية ومشاكلها المعقدة، وأوجدت البيئة التنافسية لتوفير الخدمات الطبية برعايتها وكفاءتها وأخلاقياتها المتميزة، مع أنها وحدت وحددت أسعار كلفة العلاجات الطبية والأدوية والتشخيصات المختبرية والشعاعية، ما شجع المؤسسات العلاجية للعمل بجد لتوفير الخدمات المتميزة بأسعار منخفضة نسبيا ومنافسة. وقد أصبحت اليابان رائدة في الاهتمام بالوقاية، كما أمنت الدولة بأن مواطنيها هم الاستثمار الأكبر، وبأن الاستثمار في الصحة هو أفضل استثمار اقتصادي. ومن المعروف أن المورد الطبيعي الرئيسي لليابان هو الإنسان، وتعتمد على إنتاجيته وإبداعاته لتطوير تكنولوجيتها واقتصادها. كما زرعت اليابان الطب الحديث في جسم الطب التقليدي الصيني، والذي يعتمد على نظرية الالتئام الطبيعي للجسم مع مساعدة هذا الالتئام بالأعشاب الطبيعية، والتعامل مع الميكروبات كأصدقاء للبيئة والإنسان، لا كأعداء لتجنب عدائها وغزوها ومقاومتها للعلاجات، وتجنب التدخل الدوائي أو الجراحي إلا في الحالات القصوى. وهناك مراكز علمية وبحثية جامعية متخصصة في العلاجات الصينية التقليدية كالإعشاب والإبر الصينية. وتتميز الرعاية الصحية في اليابان بكثرة استعمال التكنولوجيا التشخيصية غير الجراحية، وبقلة التدخل العلاجي الجراحي. وتقدر نسبة الوفيات السنوية حوالي 10 لكل ألف من السكان، والسبب الرئيسي في الوفاة هو السرطان، ويليه أمراض القلب والشرايين. وبالمقارنة بالولايات المتحدة، فإن عدد الأسرة العلاجية في اليابان، وفترة بقاء المرضى في المستشفى، وعدد الزيارات للعيادات جميعها مرتفعة، والتي تزيد الكلفة. ومتوسط مدة زيارة المريض للطبيب هي 6.9 دقائق، وهي مدة قصيرة بالمقارنة بالولايات المتحدة التي تصل الى عشرين دقيقة. وهناك أسباب عديدة لانخفاض مدة الزيارة، منها التنظيم الدقيق للوقت، واستعمال التكنولوجيا في إدارة العيادات، مع قلة عدد الأطباء وزيادة عدد المرضى. فمن المعروف عن المريض الياباني احترامه للوقت وقلة كلامه وإحساسه بمسؤولية عدم إضاعة وقت الطبيب، كما يدرس المريض كل ما يتعلق بمرضه قبل زيارة الطبيب، وذلك بسبب توافر تكنولوجيا الإنترنت والمعلومات الطبية باللغة اليابانية. وليسمح لي عزيزي القارئ لعرض نقدي للرعاية الصحية اليابانية من خلال مقال نشرته صحيفة الجابان تايمز في عام 2017. تقول فيه: ربطت اليابان ضرورة الرعاية الصحية بالماء والهواء، ولديها ضمان لرعاية صحية شاملة للجميع. فقد حافظت الحكومة على رعاية صحية بدرجة أولى، وبأسعار معقولة، أدت الى رفع متوقع سن الحياة إلى 83.7 سنة، وهو الأعلى في العالم. ولكن في نفس الوقت هناك تحديات جديدة منذ أن بدأ هذا النظام في عام 1961. بعد ان ارتفعت نسبة المسنين فوق الخامسة والستين إلى ثلث السكان تقريبا، وازدادت كلفة الأدوية والتشخيصات التكنولوجية، وانخفضت نسبة مشاركة المواطن في تغطية الكلفة من مقطوع نسبة من راتبه للضمان الصحي، بالإضافة إلى تغطيته لثلث كلفة العلاج. ففي القانون الياباني يجب على كل مواطن أن يشترك في نظام ضمان صحي عام، من خلال شركته أو دائرته الحكومية، وأن يدفع نسبة من راتبه لتغطية الكلفة، وبذلك توفر له الحصول على رعاية تشخيصية وعلاجية شاملة، بحيث يغطي المواطن 30% من الكلفة. ومع أن الكلفة استمرت في الارتفاع بقيت الخدمات الصحية معقولة الأسعار للجميع. فمثلا تدخلت الحكومة مؤخرا لخفض كلفة علاج جديد لسرطان الرئة الى النصف، الذي ارتفعت كلفته الى حوالي 35 مليون ين ياباني سنويا، في حين لم يتأثر المريض من ذلك، حيث إن المريض يغطي جزءا محددا من كلفة العلاج، وبحسب إمكانياته، أما الأسعار العالية فتدعمها الحكومة. ففي ميزانية عام 2014 غطى المرضى 11.7% من كلفة الرعاية الطبية، التي ارتفعت إلى 40.8 تريليون ين ياباني، بينما غطت مؤسسة الضمان الصحي 48.7% من هذه الكلفة، وغطيت 38.8% الباقية من الضرائب التي تجنيها الدولة. وقد أكد البروفيسور الأمريكي جون كامبل، الخبير بالرعاية الصحية اليابانية، أن تجربة الرعاية الصحية اليابانية مفيدة للولايات المتحدة، حيث تعلمنا أن الضمان الصحي الشامل هو الطريقة السليمة لخفض الكلفة، وخاصة أنها تحدد السعر باتفاق بين وزارة المالية، والحزب الحاكم، ووزارة الصحة والعمل، وجمعية الأطباء اليابانية، لذلك هناك آلية دقيقة وفريدة لتحديد الأسعار لجميع الأدوية والعمليات. فهناك سيطرة حكومية كاملة على جميع الأنظمة والقرارات المحددة بالرعاية الصحية، لمنع ارتفاع الكلفة. كما يعتقد الدكتور يوسوكي توسيجاوا بأن اليابان لن تستطيع الاستمرار مستقبلا في تغطية زيادة الكلفة في الرعاية الصحية، حيث تكلف الرعاية الصحية اليوم 11.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي الثالثة بعد الولايات المتحدة (16.9%) وسويسرا (11.5%). كما أن القول بأن كلفة الرعاية الصحية اليابانية منخفضة، وساعدت على رفع نسبة العمر لم تعد مقبولة، فقد أكدت الأبحاث أن طول العمر غير مرتبط بنظام الرعاية الصحية، بل مرتبط بالتعليم وأساليب التغذية والتدخين والكحول والوراثة. بل أصبحت الكلفة جزءا من ضعف النظام الصحي الياباني، وشكرا للحكومة لاستطاعتها السيطرة، حيث حددت أسعار الضمان الصحي والعلاجات الطبية. والمشكلة أن الحكومة مع أنها تسيطر على تحديد كلفة الرعاية الصحية وعلاجاتها، ولكن ليس لها سيطرة على كمية الخدمات التي تقدمها، وهو ما خلق ثقافة شعبية لزيادة زيارة المستشفيات من دون الحاجة الى ذلك طبيا، لأن الخدمات متوافرة من دون حدود، والتي لم تستطع الحكومة السيطرة عليها. في الوقت الذي يزيد ذلك الضغط على الأطباء والممرضات، ويقلل وقت الزيارة، ليترافق بزيادة الفحوص غير الضرورية، كما زاد خفض الكلفة لزيادة الفحوص الشعاعية، لذلك تملك اليابان أكثر نسبة في العالم من أجهزة الفحص المقطعية، مع زيادة نسبة زيارة العيادات لثلاثة أضعاف الولايات المتحدة، كما أن نسبة عدد أسرة المستشفيات عالية، ونسبة بقاء المرضى في المستشفيات عالية جدا. فبذلك هناك حجم استخدام الرعاية عالية جدا، فهناك حاجة إلى الإصلاح، لخفض استغلال خدمات الرعاية الصحية، لحل معضلة نقص الأطباء والممرضات، وبدون زيادة الكلفة. ويمكن لليابان تعلم الكثير من الولايات المتحدة في التعليم والتدريب الطبي، وعلينا أن نتخلص من نظام «تستطيع أكل قدر ما تشاء»، مترافق بتبذير كبير، إلى نظام يوفر الرعاية الصحية لعدد أكبر من المسنين، وبميزانيات أقل. وباختصار مفيد، فإن إحساس المواطن الياباني بمسؤوليته الوطنية هو السبب الرئيسي لتميز التجربة الصحية اليابانية. فيحافظ المواطن على صحته بالغذاء المتوازن والنشاط المستمر. وحينما يزور الطبيب يكون جاهزا بخلفية معلوماتية جمعها من الإنترنت، لتكون استفساراته دقيقة محددة ومختصرة، كما يستطيع المواطن التعامل مع كثير من مشاكله الطبية بالتزام دقيق، وبمساعدة ممرضة المجتمع، وبدون الحاجة إلى دخول المستشفى. والخدمات العلاجية اليابانية متطورة جدا تكنولوجيا، بيد الطبيب والكومبيوتر والالتراساوند، وشرحه محدد ودقيق، ويتجنب مناقشة التشخيص قبل أن تكمل جميع الفحوص اللازمة، ويتجنب صرف دواء أو إجراء عملية إلا بعد أن يستنفد جميع الوسائل الأخرى في الرعاية الصحية. والسؤال لعزيزي القارئ، هل سنعمل معا لتوفير الضمان الصحي الشامل بوطننا العربي؟ وهل ستصدر برلماناتنا التشريعات الصارمة للمحافظة على أخلاقيات ممارسة مهنة الطب ومحاسبة الإهمال الطبي؟ وهل سنطور قضاء متخصصا وعادلا ليحكم بين المرضى والقوى الصحية العاملة؟ وهل ستضع مؤسساتنا الطبية التعليمية معايير ذهنية وأخلاقية دقيقة لاختيار أطباء وممرضات المستقبل؟ ولنا لقاء.
مشاركة :