تقرر الشابة الفرنسية كليمنس بعدما توفي والداها بالتبني العودة إلى لبنان، للبحث عن والديها الحقيقيين اللذين تخليا عنها نتيجة ولادتها مريضة برئة واحدة. هذه العودة ستحدث حالاً من الاضطراب في قلب العائلة التي لم تكن تتوقع عودة «الابنة غير المنتظرة»... يعالج الكاتب الفرنكوفوني ألكسندر نجار، وبالتالي مخرجة نصه الكومي - درامي لينا أبيض قضية التبني، ومن خلالها قضية الإعاقة في عمل مسرحي جريء وجميل يخترق منطقة خطرة وشائكة في الذاكرة اللبنانية تتمثل في ما يسمى تجارة الأطفال وهي كثيراً ما راجت خلال الحرب الأهلية ونجمت عنها مشكلات عدة ما زالت أصداؤها تتردد حتى الآن. لكنّ نجار لم يشأ أن يقارب هذه القضية رمزياً أو على طريقة المسرح العبثي والسوداوي، بل تطرق إليها عبر الكومي - دراما التي بدت الإطار الأمثل لهذا النوع من القضايا التي يختلط فيها العبث بالمأساة. وإن بدا نصه حقيقياً وواقعياً في معالجة هذه المسألة، فهو لم يخل من البعد الكوميدي الذي جعله قريباً من مسرح البولفار الفرنسي، ولكن كما تجلى مع كتاب مسرحيين كبار من مثل ساشا غيتري وجان أنوي وإيميه ومارسو الذين أحدثوا ثورة في تراث البولفار الكلاسيكي بعد الحرب العالمية الثانية. وقد نجح نجار في كتابة نص دراماتورجي يحاذي الميلودراما ولا يقع فيها وينقلب على المأساة، مأساة الاقتلاع والإعاقة ليجعل منها دراما - كوميدية تجمع بين الجدية والهزل متكئة على شيء من البسيكولوجيا. وقد نجحت المخرجة لينا أبيض في بلورة النص مشهدياً ودرامياً في اعتمادها حلولاً إخراجية متعددة المرجع ومنها تقينات مسرح البولفار والكوميديا المفتوحة والعمل على الشخصيات أو الممثلين وبناء علاقاتهم في فضاء مبني هو أيضاً بمتانة. إنها إذاً مسرحية العائلة التي تفاجأ بعودة الابنة التي اقتلعت منها في لحظة ضعف وانهيار: كانت الأم أنجبت طفلاً مقعداً يعاني شللاً في الرجلين ثم أنجبت طفلة معاقة أيضاً ذات رئة واحدة ومهددة بالموت. لم تحتمل الأم ولا الأب طفلة أخرى معاقة فسلموها إلى أحد الأديرة وتم تبنيها من زوجين فرنسيين هما طبيبان فأضحت ابنتهما الوحيدة. عندما أصبحت الفتاة في التاسعة من عمرها، اعترف لها والداها بأنها متبناة من أسرة لبنانية... إلا أن المسرحية تقدم صورة لهذه العائلة اللبنانية «جداً» بجوها وعلاقات أعضائها بعضهم ببعض: الأم إيفون (جوزيان بولس) امرأة تقليدية، محافظة، تصلي وتحب فرنسا الملكية، الأب جبور (أنطوان بلابان) شخص غريب الأطوار، ضابط سابق، مرح وغير متسلط، جدعون (مايك هاروتيون إيفازيان) ابن مقعد منذ ولادته، يعيش في المنزل عاطلاً من العمل، متأثر بإعاقته، يحب الموسيقى الصاخبة ويتهم أهله بعدم الاهتمام به، كريم (شربل صهيون) شقيقه يعمل في دبي، متحرر ويعيش في عالم خاص به، لميا (يارا زكور) الشقيقة التي تحلم بالسفر وتملك محلاً لبيع الملابس الداخلية النسائية، أما كليمنس (دنيا ايدن، ممثلة فرنسية، مصرية الأصل) فهي الابنة العائدة. تخترق العائلة شخصيات من الخارج وفي مقدمها الجارة جورجيت (لينا أبيض) الثرثارة والفضولية، المحامي سمير (وليد عرقجي) الذي يحب لميا ويؤدي دور الوسيط بين العائلة والابنة العائدة، إضافة إلى الطراش الذي يجدد طلاء الشقة (علي فرحات)... وبما أن المسرحية تبدأ في باريس عبر مشهد كليمنس، فكان لا بد من إضافة شخصية فرنسية حاضرة - غائبة وهي شخصية الموسيقي الفرنسي الذي يعلم كليمنس العزف على البيانو. وبدا صامتاً حيناً كأنه شاهد من بعيد، وعازفاً ماهراً حيناً (موسيقى إريك ساتي البديعة) يرافق عزفه سير المواقف والحوادث. لا تعود كليمنس لتنتقم من أهلها الحقيقيين، فهي لا تحقد عليهم بل تريد أن تعلم فقط لماذا تخلوا عنها، وتُصدم عندما تعرف أن السبب هو إعاقتها وتصدم أكثر حين تعرف أن والديها تخليا عنها هي كفتاة بينما احتفظا بشقيقها المقعد. لا تقول لأمها أمي بل مدام، وكذلك لأبيها، شقيقها كريم يعجب بها ويحلم بعلاقة معها قبل أن يعرف الحقيقة... لكن شقيقها المقعد جدعون يكون الأقرب إليها والأحن عليها ويصبحان صديقين تجمعهما الإعاقة التي فصلت بينهما. وفي مشهد جميل، تصطحبه إلى الكورنيش عند غروب الشمس ويستفيضان في بوح بعضهما لبعض بالكلام. يشكو لها مأساته الشخصية ومعاناته ولامبالاة أهله به، وتخبره هي فصولاً من حياتها. يعود جدعون إلى البيت بعد النزهة، مملوءاً أملاً وعزيمة. أما كليمنس فتتحضر للعودة إلى وطنها الثاني بعدما تعرفت إلى عائلتها الحقيقية. لقد تخلصت الآن من اضطرابها النفسي أو الوجودي واكتشفت هويتها الضائعة وجذورها المقتلعة. وفي الختام وعبر لعبة إخراجية وسينوغرافية جميلة تستقبل كليمنس شقيقها جدعون المعاق في بيتها بفرنسا بينما نرى كريم وشقيقته لميا واقفين على الباب يحملان حقيبتيهما كأنهما يستعدان للسفر، أما الأب والأم فيظهران في حال من الأسى العائلي. مسرحية واقعية، طبيعية، رمزية، كومي - درامية، عميقة، جادة وهزلية، تعالج قضايا شديدة الرهافة، ولكن بعيداً من أي ادعاء أو افتعال. ونجحت لينا أبيض في إدارة الممثلين الذين يشاهد الجمهور اللبناني بعضاً منهم للمرة الأولى: جوزيان بولس متمكنة من شخصية الأم المرحة، والتي تخفي داخلها أثر الابنة التي تخلت عنها، دنيا ايدن رائعة في دور كليمنس الابنة العائدة، طوني بلابان الممثل القدير وقع في بعض المبالغة متخطياً حدود دوره كأب يعاني ألم ضمير... ولئن كانت المسرحية فرنكوفونية تتخللها جمل ومفردات عربية إلّا أنها لم تسقط من حسابها الجمهور اللبناني العادي فأرفق العرض بترجمة عبر شاشة صغيرة في أعلى المسرح. وهذه فكرة صائبة لأن هذه المسرحية يجب أن يشاهدها الجمهور اللبناني على اختلاف ثقافته أو اللغات التي يتقنها. وتجدر الإشارة إلى أن المسرحية هي من إنتاج مؤسسة «سكستي أفينتس» وتقدم على مسرح مونو - الأشرفية.
مشاركة :