ابن «عكا»..غسان كنفاني السارد الفلسطيني لقضية «أرض البرتقال الحزين»

  • 4/8/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في ذكرى ميلاده، على تراب المدينة الفلسطينية التاريخية العريقة « عكا»، 8 إبريل / نيسان 1936 .. يبقى الروائي والقاص والصحفي الفلسطيني، غسان كنفاني، أول من أدخلنا إلى قلب فلسطين، وقد كنت وجيلي نقف على بابها، ونحبها  دون أن نراها، كانت بالنسبة لنا شحنة عاطفية عالية، فأعادها أرضا تنبت البرتقال والياسمين ولكنها تنبت قبل ذلك الرجال والنساء والأطفال.. يقولون ـ وقد صدقوا ـ  أعاد  «كنفاني» فلسطين إلى أرضها، وأعاد الأرض إلى تاريخها، وأعاد التاريخ إلى أهله وأعاد الأهل إلى هويتهم الأصلية، فإذا فلسطين عربية باللحم والدم والهواء والشمس والقمر والمهد والقيامة والجلجلة والأقصى والحرم الإبراهيمي والأنبياء والمعراج والشوك والحصى ومياه العمادة والأغوار التي تضم في حناياها عشرات الصحابة الذين استشهدوا من أجلها وفي الطريق إلى تحريرها من الاحتلال الأجنبي .           كان «غسان» مسكونا بالهاجس الفلسطيني، وقد عاش المأساة الفلسطينية وحمل جراح شعبه واّلامه وهمومه اليومية في أعماق قلبه وسكبها في قوالب فنية جميلة وأصيلة جاءت تجسيدا صادقا لواقع البؤس والشقاء والحرمان والظلم والقهر الاجتماعي الذي يعيشه الفلسطيني المشرد والمطارد في المخيمات الفلسطينية وفي جميع اصقاع العالم.. لقد عشق الأرض والوطن الفلسطيني ،بسهوله وهضابه ووديانه وبرتقاله وزيتونه ورمانه ومدنه الثابتة، ولذلك أحبته الجماهير الشعبية الفلسطينية وحظي بتقدير رفاقه وشعبه وتياراته السياسية واتجاهاته الفكرية.       كانت رؤية الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل،  محمود درويس، لشخصية غسان كنفاني، أنه في عمق وعيه كان يدرك أن الثقافة أصل من عدة أصول للسياسة، وأنه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي، ولعل المسعى الأهم لبحوث كنفاني الأدبية هو ذلك المتمثل في ترسيخ أسس ولادة الفلسطيني الجديد، لجهة التأني عن الإنسان المجرد والفلسطيني المجرد والاقتراب من الإنسان الفلسطيني الذي يعي أسباب نكبته، ويدرك أحوال العالم العربي، ويعرف أكثر ماهية الصهيوني الذي يواجهه، وهذه المهمة لا تستطيع أن تقوم بها إلا ثقافة في مفهومها النقدي، المتجاوز لما هو سائد، الذي يقطع مع القيم البالية.         كانت فلسطين، المحور الدرامي، والبناء الثقافي، لقصص ومسرحيات غسان كنفاني، من «أرض البرتقال الحزين»، و «رجال في الشمس»، و«عائد إلى عكا»،  و«أدب المقاومة في فلسطين المستقلة»، و«الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال»..وغيرها..  ومنذ أول قصصه الناضجة بعنوان «شمس جديدة» عام 1956، بطلها طفل لاجئ من غزة يعانى من أجل قوت يومه وسط تجاهل المجتمع، إلى أن تبتسم له الحياة ويجد مصدرا دائما للرزق.. إلى جانب مئات المقالات والدراسات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني.. وكان «غسان» كاتبا ثوريا بارزا مسلحا بالفكر العلمي الاشتراكي.       كان مولد «غسان» مع انطلاق شرارة ثورة 1936 فى مدينة يافا ضد قوات الانتداب البريطاني، وكأنه على موعد مع القضية الفلسطينية فى بداياتها، ومن أول يوم فى حياته، ليظل طفلا شغوفا بوصف المعارك التى خاضها أبطال ثورة 1936 وتحصنهم بالجبال كما لو كان أحد شهودها، وظهر بعض أبطالها فى إبداعاته فيما بعد، وحتى استشهاده فى ريعان الشباب، في العام 1972 في بيروت بانفجار سيارة مفخخة على أيدي عملاء إسرائيليين           ونجد ذلك في مجموعة «موت سرير رقم 12» وتضم سبع عشرة قصة، منها «البومة فى غرفة بعيدة» التى تشير للنكبة التى لم تغب عن ذهنه طيلة حياته، ويقص بطلها صورة بومة مبتلة بماء المطر من مجلة ويعلقها على جدران غرفته الخالية من الأثاث، وتفاجئه الصورة حين يأوى إلى فراشه فى الليل بتحولها إلى شيء بشع، وتشبه نظرة إنسان أجبر فجأة للاختيار بين الموت و الهرب، فتفجر اللحظة فى ذهن البطل شلالا من الذكريات: «كان ذلك قبل عشر سنوات، تقريبا، كنت فى قريتى الصغيرة.. التى تتساند دُورها كتفا إلى كتف فوق حاراتها الموحلة.. كنت طفلا آنذاك، وكنا نشهد دون أن نقدر على الاختيار، كيف كانت فلسطين تتساقط شبرا شبرا وكيف كنا نتراجع شبرا شبرا». البطل شاهد وهو صغير بومة على غصن شجرة، وفى وهج نيران الحرب لمح فى عينيها تحديا مشوبا بالخوف والحيرة فى البقاء على الشجرة، أو التحليق بعيدا. وظلت الصورة عالقة فى ذهن الشاب الذى عاش المنفى بعيدا عن الوطن الذى ضاع فى لحظة اختيار سيئة.. وأهدى غسان هذه المجموعة إلى من استشهد فى سبيل فلسطين، وإلى من لم يستشهد بعد.       وفي مجموعته «عالم ليس لنا» تبدو ملامح سطوة اليأس والشعور العميق بالمنفي، ونجد بعض القصص تمهد للخروج إلى عالم الكفاح المسلح. مثل قصة «العروس» التى تعد علامة فارقة فى إبداعات كنفاني، وبطلها مقاتل قروى انتزع بندقية تشيكية من جندى صهيونى فى حرب 1948، لكنها سرقت منه وبيعت لأحد الشيوخ فى قرية أخري، فيهيم فى المنفى ويسأل عن «العروس»، أى بندقيته، وبتكرار السؤال أصبحت رمزا للخلاص من المحتل الغاصب وبشرى بميلاد الثورة المسلحة.         ونفس الصورة والمشاهد نجدها في مجموعته «عن الرجال والبنادق»، وهي متوالية قصصية تمزج سيرة السلاح بسيرة الأبطال الذين يذهبون للهجوم على قلاع الإنجليز، وتتناول أحداث تاريخ المقاومة منذ ثورة 1936 مرورا بفشل القيادات العربية فى حرب 1948، ثم تأسيس منظمة التحرير والتفاف الفلسطينيين حولها وانطلاق العمل الفدائي، الصبى منصور وخاله يمثلان المحور الإنسانى الذى تدور حولهما قصص المجموعة والمرتبط بالبندقية، فالصبى يعشقها مع أنها تزن أكثر من نصف وزنه، وخاله الذى يملكها يحرص عليها حرصه على حياته، وذات يوم يطلب منصور البندقية للمشاركة فى صد الهجوم الواقع على صفد، ويقول له إذا مت فسيعيدها إليك حسام.       بقي غسان كنفاني أحد أشهر الكتاب والصحفيين العرب في القرن العشرين. فقد كانت أعماله الأدبية من روايات وقصص قصيرة متجذرة في عمق الثقافة العربية والفلسطينية..وأصدر حتى تاريخ وفاته المبكّر ثمانية عشر كتاباً، وكتب مئات المقالات والدراسات، وتُرجمت معظم أعمال غسان الأدبية إلى سبع عشرة لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلداً.. وكانت تروي مشاهد حية لطفل  ولد في عكا، شمال فلسطين، وعاش في يافا حتى تاريخ النكبة في شهر مايو/ أيار 1948 حين أجبر على اللجوء مع عائلته في بادئ الأمر إلى لبنان ثم إلى سوريا..وعاش وعمل في دمشق ثم في الكويت وبعد ذلك في بيروت.

مشاركة :