المؤكد أن الشعب الفلسطيني كان يتشبث بأرضه قبل الثلاثين من مارس 1976، تماماً كما هو الحال بعد ذلك اليوم، حتى ساعتنا الراهنة. قصة الصلة بالأرض ومصيرها، توجز الصراع المحتدم في فلسطين التاريخية منذ أكثر من مئة عام، فمن جانب، هناك الغزوة الصهيونية الاستيطانية وصناعها ورعاتها فكرياً وعملياً، وهناك من جانب آخر، الشعب الأصيل الذي يستبسل في الدفاع عنها، والاستجابة لتحدي الاقتلاع والاستئصال. استثنائية هبة الثلاثين من مارس، واعتبارها محطة فارقة في هذه المواجهة، تتأتى من مباغتتها للغزاة في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم المطبقة منذ 1948. المناطق التي حسب الصهاينة، وربما كثيرون غيرهم، أنها أكثر أعصاب الفلسطينيين عرياً وانكشافاً وهشاشة، حتى إن أبناءها يحملون المواطنة الإسرائيلية. وهذه لعمركم واقعة كانت، وما زالت، كاشفة لمعانٍ بالغة العمق. ومنها أن هناك نقطة حدية لاصطبار الشعب الفلسطيني الأصيل على قضم أرضه، ومحاولة ابتلاعها في جوف الوحش الصهيوني. ثمة مؤشرات على أن هبة «يوم الأرض»، فرضت على المشروع الصهيوني برمته، إعادة حساباته، ورؤيته لأولويات دوائر الصدام مع هذا الشعب. وليس بلا مغزى في هذا السياق، ما ورد على لسان موشي أرينز، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق: «إذا تأملنا مصادر الخطر على إسرائيل، يتضح أن أكثرها إلحاحاً، يتعلق بمصير الفلسطينيين المتجذرين داخلها منذ عام 1948». هذا التكييف، يدعونا للاعتقاد بأن صناع السياسة والقرار الإسرائيليين، لن يستبعدوا شريحة فلسطينيي 1948، من أي سياق للتسوية الفلسطينية النهائية. وهو تصور ينبغي أن يطرح للتداول والجهوزية فلسطينياً وعربياً. تقديرنا أن الشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده، داخل فلسطين التاريخية وخارجها، يعيش في إطار يوم أرض ممتد. وعطفاً على إبداعاته في المقاومة الشعبية المتفاعلة حالياً، تحت عنوان «مسيرات العودة»، يصح القول بأنه أضاف إلى الدفاع عما تبقى له من أرض، تجديد الإعلان عن حقه في العودة إلى ما استلب منها، عبر التجمع بحشود ضخمة على مشارفها ونقاط التماس معها. هذه نقلة نوعية كبيرة، قد تتلوها خطوات مفاجئة أخرى. بهذا النمط الكفاحي، يبدو الفلسطينيون وكأنهم لا يغمسون أيديهم في نهر المقاومة مرتين. إنهم أقرب إلى تطوير الأدوات ومرونة الحراكات. هذا في حين يفتقد الغزاة الصهاينة إلى الخيال، كونهم يستخدمون وسائلهم القديمة، التي تراوح داخل مربع القوة والعنف بالحديد والنار. تتجلى هذه الدوجمائية، في استسهال جيشهم وشرطتهم الضغط على الزناد وقتل المتظاهرين السلميين. ربما يجادل البعض في مدى احترافية الفلسطينيين في التعامل مع أدوات المقاومة الشعبية، بما فيها مسيرات العودة. وفي هذا السياق، قد تثار شكوك حول جدوى هذه الأدوات في استعادة الحقوق، لا سيما بين يدي مواجهة المخارز الإسرائيلية الحادة. لكن هذا الجدال، سواء جاء بدافع التجويد والتصحيح، أو أضمر تثبيط الهمم والتعجيز، لا ينبغي له أن يصرف الأنظار والأفئدة عن صدقية المقاومة الفلسطينية، ولا عن أحقيتها في طلب المدد والعون من القوى العاطفة على العدل وعالم القانون والنظام والأخلاق والقيم الإنسانية السوية. يوماً تلو الآخر، يبرهن الفلسطينيون على أنهم يختزنون إرادة صلبة وطاقة عطاء جبارة، لا تبدو قابلة للأفول. لكن هذه الحيوية الكفاحية، تحتاج، عاجلاً وليس آجلاً، للصيانة والتسييج بالحماية الدولية. عيب كبير أن تتبوأ القوي الراعية للقوانين والشرائع السماوية والوضعية، على كافة الصعد والمستويات، مقاعد المتفرجين والنظارة عن بعد، فيما يعيث الإسرائيليون عنفاً وطغياناً وإيغالاً في دماء المحتجين العزل. عيب كبير أن يصبح الفلسطينيون، بشهدائهم وجرحاهم ومختطفيهم ومعتقليهم ومعذبيهم، مجرد أرقام في مدونة تاريخية، مدسوسة في الأدراج أو مصففة على الأرفف، لدى واحدة أو أخرى من المؤسسات الحقوقية. قوانين السلم والحرب في عالمنا المعاصر، تتضمن وسائل وتتحدث عن آليات تكفي، إذا ما فعّلت، لحماية المقاومة الفلسطينية السلمية، ووضع الإجرام الإسرائيلي تحت طائلة المحاسبة والعقاب المادي والمعنوي. ومما يلح على الخاطر بالخصوص، أن ثمة 138 دولة تعترف بالدولة الفلسطينية، وبأحقية شعبها في الاستقلال والتحرر.. ترى، ما الذي يحول دون مناشدة هذه المجموعة الكبيرة، بالتصدي للعسف الإسرائيلي، والتقدم بمواقفها إلى الأمام، عبر العمل جدياً على حماية هذا الشعب، ثم تجسيد دولته على أرض الواقع؟! وإذا ما صدق العزم، فسوف تتفتق العقول والسياسات عن عشرات المداخل لتحقيق هذا الهدف النبيل.
مشاركة :