بعض الأماكن تتجاوز بعدها الجغرافي وتتحول إلى رمز، مجرد التفكير فيها يصبح تفكيراً في حالة قائمة بذاتها. هذا هو الحال بالنسبة إلى منطقة «أوفير سور واز» التي تبعد نحو ساعة بالسيارة عن باريس، والتي قصدها فنانون معروفون في القرن التاسع عشر ووجدوا في طبيعتها السحر الذي نهلت منه أعمالهم الفنية. في مقدم هؤلاء يأتي الفنان الهولندي فان غوغ الذي أمضى الأشهر الأخيرة من حياته في أوفير حيث رسم أكثر من سبعين لوحة، تعد من تحفه الفنية الموجودة اليوم في متاحف العالم. الآتون من جميع الأنحاء لرؤية المكان الذي عاش ورسم فيه فان غوغ، غرفته الصغيرة التي أنهى حياته فيها، الكنيسة التي خلدها في أحد أعماله والطبيعة الرحبة حولها، هؤلاء الآتون لا يكتفون برؤية كلّ ذلك، وإنما كثر منهم ينظرون إلى الطبيعة الخلابة هناك وفق الرؤية التي طالعتهم في أعمال الفنان الشهير. ما يضفي أهمية إضافية على المكان هو أنه يحتوي أيضاً على رفات فان غوغ الذي دفن مع شقيقه في مقبرة القرية المطلة على سهول لطالما حدق فيها الفنان، وتأمل في عناصرها التي تجمع بين ألوان الأرض والسماء. هذه المنطقة التي تحولت إلى مزار فني على المستوى العالمي، أطلقت مع قدوم فصل الربيع مجموعة من النشاطات الجديدة للتعريف بالمكان، وكانت أخيراً محط رحال لجولة قامت بها مجموعة من الإعلاميين الفرنسيين وغير الفرنسيين، للتعرف عن كثب إلى معالمها وأثرها البيِّن في نتاجات الفنانين الانطباعيين وحضورهم في المشهد التشكيلي الحديث. من أبرز هذه النشاطات الجديدة معرض يعتمد على أحدث التقنيات الرقمية في مجال الصوت والصورة، ويحمل عنوان «رؤية انطباعية»، ويقام في قصر أوفير التاريخي الذي أعيد افتتاحه العام الماضي بعد خضوعه لأعمال ترميم واسعة حتى يتلاءم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين. والمعرض أشبه برحلة تروي نشأة الحركة الانطباعية في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكيف شكّلت في زمانها حركة تمرد فعلية على قيم الفن الكلاسيكي والأكاديمي. وكما هو معروف اختار الفنانون الانطباعيون ومن أشهرهم مونيه ورونوار الرسم في الهواء الطلق، وتجسيد تحولات الضوء واللون وانعكاساته على عناصر الطبيعة، بدل العمل في المحترفات المغلقة. وقد كان لأعمالهم أثر على أجيال من الفنانين منهم فان غوغ وغوغان وغيرهم. أشرفت على هذا المعرض شركة «أوميو» المتخصصة في التكنولوجيا الحديثة، حيث تطالعنا بصورة متحركة وعلى خلفية موسيقية صور على الجدران لأشهر الأعمال الانطباعية مع شروحات دقيقة لأبرز مراحلها التاريخية. ويتوقع المسؤولون عن بلدية مدينة أوفير أن يزيد عدد زوار المدينة مع هذا المعرض الذي يجمع بين الفن والتكنولوجيا وجمال الطبيعة بأحدث صورة. أخيراً، يأتي هذا المعرض في سياق المعارض التي تؤكد حضور التكنولوجيا في الفن اليوم ضمن توجهين أساسيين، الأول من خلال صياغة العمل الفني بأكمله، وثانياً من خلال استعمال التكنولوجيا للإضاءة على أعمال هامة في مسيرة الفنون القديمة والحديثة.
مشاركة :