تثير الألعاب الإلكترونية الخطرة على شبكة الإنترنت مثل لعبة "الحوت الأزرق" حالة من القلق العارم حول العالم واهتماما لافتا بين المثقفين بعد أن أسفرت عن حالات انتحار في عدة دول لتشير "للوجه القاتم لثقافة ومستحدثات العصر الرقمي".وفيما باتت الصحف ووسائل الإعلام تتحدث بإسهاب عن لعبة "الحوت الأزرق بعلاماتها وإشاراتها ومستوياتها وتحدياتها"، فإن بعض الخبراء والمتخصصين في الدراسات النفسية والاجتماعية والتربوية أكدوا أن الاهتمام بالأنشطة الإبداعية والرياضية يمكن أن يسهم في إبعاد الأطفال والنشء عن هذه اللعبة وغيرها من الألعاب الإلكترونية الخطرة التي تسمى "مجموعة الموت".وتأمل كتابات المثقفين حول العالم وعلى اختلاف اللغات والتوجهات يؤكد على حالة من القلق العام بينهم حيال هذه الألعاب الإلكترونية الخطرة كإفراز سلبي من إفرازات العصر الرقمي، ويكاد يتكثف في تساؤل استنكاري: "ما الذي فعلته التكنولوجيا في الإنسان؟".ولا ريب أن هذه الألعاب على شبكة الإنترنت أمست تثير مشاعر القلق والخوف لدى العديد من الأسر التي تضم أطفالا ومراهقين وهي حالة ظاهرة في مصر والعالم العربي ككل ضمن سياق عالمي، فيما تساءل مثقف هندي هو "موخرا برايا"، أستاذ الأنثروبولوجيا أو علم الاناسة في جامعة البنجاب: "هل الحوت الأزرق لعبة أم جريمة؟"، وقدم مواطنه بارساراثي رامامورثي وهو أستاذ للطب النفسي دراسة معمقة حول تلك اللعبة ومخاطرها.وسواء في عالم الشمال أو عالم الجنوب، فإن أغلب الكتابات التي تتصدى لإشكالية الألعاب الإلكترونية الخطرة مثل "الحوت الأزرق" تتفق في توصيف ممارسي هذه الألعاب بأنهم "يقترفون في حق أنفسهم جريمة إيذاء الذات والتي تصل أحيانا للانتحار"، فيما تتوالى دراسات معمقة حول هذه الإشكالية، خاصة في بلدان كالهند، حيث تتضافر جهود علمية تنتمي لتخصصات مختلفة من بينها الطب النفسي والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي للإجابة على تحديات "ظاهرة الحوت الأزرق".وحسب بيانات وتقارير منشورة، فإن لعبة "الحوت الأزرق" ظهرت عام 2013 في روسيا وانتشرت هناك بين الشباب والمراهقين على نطاق واسع منذ عام 2016 لتثير حالة من الذعر بين الآباء والأمهات بعد أن وقعت عدة حالات انتحار جراء الانهماك في هذه اللعبة، فيما أدين مخترعها الروسي فيليب بوديكين وهو شاب يبلغ من العمر 21 عاما أمام القضاء وحكم عليه بالسجن في شهر يوليو الماضي لمدة ثلاث سنوات لتحريضه المراهقين على الانتحار.وإذ توصف لعبة "الحوت الأزرق" في الصحافة الثقافية الغربية بصفات مثيرة للقلق مثل وصفها بأنها "آخر كوابيس مواقع السوشيال ميديا"، أو التواصل الاجتماعي أصدرت محاكم في بعض الدول ومن بينها روسيا وتونس والهند أحكاما تقضي بحجب لعبة الحوت الأزرق وألعاب خطرة أخرى على شبكة الإنترنت وإزالة روابطها، كما حذرت السلطات الفرنسية كل مرتادي الشبكة العنكبوتية من المخاطر الجسيمة لهذه النوعية من الألعاب الإلكترونية.والفئة العمرية الأكثر استهدافا من جانب "لعبة الحوت الأزرق الحافلة بألوان إيذاء النفس" هي فئة الأطفال والمراهقين ما بين 12 عاما و16 عاما وتشير بعض الكتابات والمراجع مثل "ويكيبيديا" إلى أن فيليب بوديكين الذي كان يدرس علم النفس استوحى اسم هذه اللعبة من "أقدام الحوت الأزرق أحيانا على الانتحار عند الشاطئ".وواقع الحال أن "ظاهرة الحوت الأزرق وغيرها من الألعاب الإلكترونية الخطرة" لم تكن غائبة عن العقل الثقافي العربي، فقد حذرت السفيرة إيناس مكاوي، المسئولة عن ملف المرأة والأسرة والطفولة في جامعة الدول العربية، منذ نحو عام من خطورة "برامج للألعاب الإلكترونية باللغة العربية تشجع الأطفال على الانتحار كما تحرض على العنف الممنهج". وإلى جانب الجهود الرسمية في دول شتى للتصدي لهذه الألعاب الإلكترونية الخطرة على شبكة الإنترنت، كان من الدال أن يدشن بعض مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي مبادرات خاصة وفردية أحيانا للتحذير من تلك الألعاب القاتلة وتقديم "بدائل حميدة للتسلية". وبعض إعلانات ألعاب الفيديو في دول كالولايات المتحدة تحمل عبارات تسوق القتل كلعبة مستحبة مثل: "اقتلهم جميعا" ومن هنا يتحدث المعلقون فى وسائل الإعلام الأمريكية عن "ثقافة الموت التى تمولها الإعلانات فى الميديا وتفضى لتبلد الأحاسيس الإنسانية". ومن هنا أيضا فإن الأمر يبدو أكثر تعقيدا من حلول سطحية أو إجراءات عاجلة وربما مطلوبة ومبررة بشدة مثل الدعوة لتسليح حراس المدارس للتصدى لأى هجمات على التلاميذ لأن القضية فى جوهرها كما اتفق العديد من الكتاب فى الصحافة الثقافية الأمريكية هى قضية ثقافة لابد من تغييرها، وهي ثقافة تكاد تقدس العنف وأبعد ما تكون عن حميمية التواصل الإنسانى الدافئ.وتفسر تلك الثقافة الجرائم المروعة التي تقع من حين لآخر في الولايات المتحدة مثلا عندما يتعرض أطفال في مدارسهم لهجمات بالأسلحة النارية فيما ينتمي أغلب مرتكبي هذه الجرائم النكراء لفئة مدمني الألعاب الإلكترونية والعاب الفيديو.وها هو الكاتب الأمريكى جارى ويلز يرى أن ما يحدث فى جرائم العنف المروعة لم يكن نتاج أشخاص معتوهين بقدر ما يعبر عن ثقافة منحطة، حيث ترتكب جرائم ضد الأطفال وليس هناك أسوأ من تقديم الأطفال قربانا للشر المجنون.كما لا يجوز تناسي ظواهر أخرى اقترنت بهذه الألعاب الإلكترونية مثل لعبة "البوكيمون جو" التي اجتاحت العالم منذ نحو عامين وأثارت تساؤلات قلقة حتى في الأوساط والدوائر الثقافية على مستوى الكرة الأرضية.ولئن وصفت لعبة "البوكيمون جو" التي ابتكرتها شركة يابانية بأنها "تطور نوعي في عالم الترفيه"، فإنها بذلك تأتي تحت العنوان الأكثر شمولا الذي يتعلق بالتغيرات في عالم الترفيه مع توالي منجزات العصر الرقمي وما تنطوي عليه هذه المنجزات من إيجابيات وسلبيات، ناهيك عن التأثير الكبير والملموس بقوة لعالم الترفيه على أوجه الحياة الإنسانية، خاصة الاقتصاد.ولعبة "البوكيمون جو" التي اعتبرها البعض في الغرب "مؤشرا لثقافة ترفيهية جديدة في العصر الرقمي"، أطلقت لتجمع ما بين "الرسوم المتحركة والعالم الحقيقي وخدمة خرائط جوجل"، فيما بلغ عدد مستخدميها خلال أقل من أسبوعين من تدشينها في الولايات المتحدة وحدها نحو 21 مليون شخص.وجوهر لعبة "البوكيمون جو" أو فكرتها الأساسية تتمثل في محاولة اصطياد حيوان صغير مستعينا في ذلك بخرائط "الجي بي اس" والتطبيقات الإلكترونية على شاشة هاتفه المحمول غير أنه يمكن أن يتعرض لمخاطر حقيقية أثناء سيره في الطريق وهو يركز كل انتباهه في البحث عن "البوكيمون" دون تركيز على ما قد ينطوي عليه الطريق ذاته من مخاطر فيسقط في بالوعة مثلا أو تصدمه سيارة.وبينما اضطرت السلطات اليابانية لإصدار "دليل سلامة" لمستخدمي اللعبة، فهناك تحذيرات كثيرة في دول عديدة حول إمكانية استخدام لعبة "البوكيمون جو" لتصوير منشآت أو أماكن محظور الاقتراب منها وتصويرها، بينما تنقل كل الصور في هذه اللعبة فورا للجهة الخارجية التي تمسك في الواقع بكل خيوط اللعبة.وهكذا ثارت شكوك في كثير من الدول والمجتمعات حيال هذه اللعبة الإلكترونية والجامعة ما بين العالمين الافتراضي والواقعي وتساؤلات حول حقيقة الأهداف الكامنة وراء لعبة "البوكيمون جو"؛ بقدر ما طرحت سيلا من الأسئلة المؤرقة في العديد من دول هذا العالم المحاصر بالألم والشر والباحث دون جدوى عن السعادة المراوغة.وإذا كانت لعبة "الحوت الأزرق" وغيرها من الألعاب الإلكترونية الخطرة تمارس عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية مثل "فيس بوك" و"إنستجرام" و"تويتر"، فإن جديد المصطلحات والمفردات وتعبيرات "العصر الرقمي" تتوالى مثل مقولة "الانسان الرباعي الأبعاد".وثمة أسئلة ثقافية كبرى يطرحها مفكرون ومثقفون كبار هنا وهناك من بينها: هل أصبح وجودنا الإنساني مجرد وجود رقمي خادع على شبكة عنكبوتية تعلي الجدة على حساب الأصالة؟وفي كتاب صدر بالإنجليزية بعنوان "الإنسان الرباعي الأبعاد"؛ يوضح المؤلف لورنس سكوت ما يقصده بعنوان هذا الكتاب حيث بات الإنسان في العصر الرقمي مضطرا للإقامة في بيئة تختلف جذريا عما ساد من قبل فيما سقطت الحتميات القديمة للمسافة والزمن أو مسلمات المكان والزمان ليظهر "الإنسان الأون لاين".وإذا كان لورنس سكوت وهو في الأصل أديب وناقد يتصدى في هذا الكتاب الجديد لمهمة ثقافية من الوزن الثقيل للاجابة على أسئلة كبرى ووجودية مثل بحث تأثير التقنيات الرقمية الجديدة على مدركاتنا وتصوراتنا ومشاعرنا، فإن هناك حاجة لإسهامات ثقافية عربية تتصدى لظواهر كظاهرة "الحوت الأزرق" ضمن القضايا والاشكاليات التي يثيرها العصر الرقمي ومستحدثات التقنية الرقمية. نعم، نحن بحاجة لثقافة عربية رقمية جديدة تجيب على تحديات الشبكة العنكبوتية حتى يكون العصر الرقمي طريقا لمستقبل أفضل لا صرخة في طريق للهاوية وإيذاء الذات.
مشاركة :