عنوان المقال مثل هندي يمكن إعادة صياغته ليصبح هكذا (عندما يتصارع الزعماء يموت الشعب) وهذا مشاهد وملموس في عالمنا اليوم فكم أبيد أو هلك أو مات من الشعوب ضحية لتنازع القادة أو صراع الزعماء على ولاية أو رئاسة أو زعامةٍ أو كرسي حكمٍ أو منصبٍ.ويبدو أن منطقة الشرق الأوسط قد دخلت في مرحلة جديدة من تاريخها المضطرب ، خصوصاً بعدما أفضت التفاعلات المحتدمة على ساحتها إلى جملة من النتائج ، كانت تبدو حتى وقت قريب غير محتملة وربما خارج نطاق الحسابات التقليدية كلياً أهمها التدخل الروسي لدعم النظام السوري الذي تمكَّن أخيراً من تحقيق انتصارات عسكرية كبيرة، سمحت له بالسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي التي فقدها في مراحل سابقة ، وأجبرت القوى الدولية والإقليمية المناوئة على الإعتراف له في الوقت نفسه بدور رئيسي في تحديد مستقبل سورية، وربما تكون سلَّمت بحقه في قيادة مباشرة للمرحلة الانتقالية التي يفترض أن تمر بها أية صيغة يمكن التوصل إليها لتسوية سياسية للأزمة السورية ، والضحية الشعب السوري . وإذا أردنا تلخيص نتائج التفاعلات الجارية حالياً في جملة مفيدة واحدةٍ فبوسعنا أن نقول أنها تفضي موضوعياً إلى تشكيل تحالفين يقفان على طرفي نقيض من المتوقع أن يشتد الصراع بينهما في المرحلة المقبلة وقد يأخذ أبعاداً شديدة الخطورة الأول تحالف تقوده روسيا على الصعيد الدولي وتشارك فيه تركيا وإيران على الصعيد الإقليمي، مرتكزاً على قوى عربية رسمية، في مقدمها نظاما الحكم في كل من سورية والعراق، وأخرى غير رسمية، في مقدمها (حزب الله !) الإرهابي الفارسي وحركة (حماس !) الموالية والمتحالفة مع إيران ، والثاني تحالف مضاد تسعى الولايات المتحدة إلى قيادته على الصعيد الدولي، وتحاول إشراك إسرائيل فيه على الصعيد الإقليمي، مرتكزاً على قوى عربية رسمية وغير رسمية تستشعر الخطر من تمدد النفوذ الإيراني ومن تنامي التطرف الديني المذهبي في المنطقة وترى فيهما أهم مصادر تهديد الأمن في المرحلة المقبلة. ولأن الولايات المتحدة - التي سعت جاهدة لإعلان قيام هذا التحالف منذ فترة ليست بالقصيرة - أدركت أن موازين القوى في المنطقة بدأت تميل لغير صالحها، فقد راحت تكثف جهودها في الآونة الأخيرة وتتحرك بنشاط متسارع لإعادة ترتيب أوراقها وحساباتها من أجل تهيئة المنطقة للدخول في مرحلة ما بعد (داعش) والتعامل مع إيران باعتبارها العدو البديل عن (داعش) أو النسخة الثانية له . مما لاشك فيه أن قلق الدول العربية ومخاوفها من تمدّد النفوذ الإيراني له ما يبرره. غير أنه يجب على الدول العربية ألا تعتقد أن السياسة الجديدة التي تتبناها إدارة ترامب قدجاءت لتبديد القلق العربي أو لتهدئة المخاوف العربية، لأن عليها أن تدرك أن التأثير العربي على السياسات الأميركية يكاد يكون منعدماً. ولا أشك في أن سياسة ترامب الجديدة تجاه إيران تعكس قدرة اللوبي اليهودي على تغيير توجهات السياسة الخارجية الأميركية وإعادتها إلى مسارها الطبيعي في كل مرة ترى إسرائيل أنها انحرفت عنه ولم تعد تتطابق مع مصالحها. ويكفي أن نتذكر هنا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو كان الأعنف في انتقاده لأوباما عقب إبرامه اتفاقاً مع إيران حول برنامجها النووي، ووصل تحديه لأوباما في عقر داره إلى حد الإصرار على إلقاء خطاب من فوق منبر الكونغرس الأميركي ذاته صُمّم بخاصة لمهاجمة ذلك الإتفاق . وفي خطابه الأخير لخَّص ترامب في مجمل سياسته الجديدة تجاه إيران والتي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أنه يرى في النظام الإيراني مصدراً لكل الشرور في المنطقة ، وعلى الرغم من أن ترامب لم يصل إلى حد التصريح بأنه قرر العمل على تغيير هذا النظام، لكن كل كلمة في هذا الخطاب توحي بأنه يؤمن إيماناً عميقاً بأن تغيير النظام الإيراني هو السبيل الأنسب، إن لم يكن الوحيد، لتخليص المنطقة من ظاهرةالتطرف الديني .وقد يكون صحيحاً أيضاً أن ترامب لم يتخذ بعد قراراً بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، لكن الدلائل تشير إلى أنه بدأ التحرك صوب هذا الهدف وسوف يُقدِم لا محالة على هذه الخطوة في الوقت المناسب ، ويدرك ترامب حجم المخاطر الهائلة التي قد تترتب على إقدامه على عمل عسكري مباشر ضد إيران، وهو الخيار الذي تفضله إسرائيل وتسعى إلى جرّ الولايات المتحدة إليه، وهذا الخيار ليس مستبعداً وسيلجأ إليه ترامب كحل أخير بعد أن يكون قد مهد الأجواء الإقليمية والدولية لتقبله .إعداد الأجواء الإقليمية والدولية لمرحلة ما بعد (داعش) ستدفع ترامب إلى بلورة استراتيجية جديدة تجاه إيران والمنطقة تقوم ركائزها على اعتبار النظام الإيراني القائم (ولاية الفقيه) مصدر التهديد الرئيسي للمنطقة، من منطلق أنه السبب الرئيسي لظاهرة التطرّف الديني التي تغذي الإرهاب الديني ، والعمل بالتالي على حشد وتعبئة القوى الحليفة لإجبار هذا النظام على تغيير سياساته، خصوصاً سياساته الداخلية تجاه الحريات وحقوق الإنسان وحق المعارضة، وكذلك سياساته الخارجية، خصوصاً تلك المتعلقة بوجوب الاعتراف بإسرائيل والتعايش السلمي معها والالتزام بالعمل على وقف تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، تمهيداً لمحاصرته والقضاء عليه، باستخدام سياسات قد تختلف أدواتها مِن حال إلى أخرى. فمحاصرة النفوذ الإيراني في سورية ولبنان قد تستدعي مزيداً من الضغوط السياسية والعسكرية على (حزب الله !) وربما تنتهي بشن الحرب عليه إن سمحت الظروف، بينما قد تستدعي محاصرته في اليمن مساعدة الأطراف المعنية بالأزمة اليمنية على وقف الحرب وإيجاد تسوية باستمالة أسرة علي عبدالله صالح وبمشاركتها والعمل على تهيئة الأجواء الإقليمية للقبول بتعاون استراتيجي وسياسي وأمني لمواجهة الخطر الإيراني المشترك.عبدالله الهدلق
مشاركة :