تضاءلت الأسلحة بيد العراقيين في مواجهة حالة الانحطاط السياسي، حتى بدا وكأن حالتهم ميؤوس منها، وإنهم استسلموا نهائيا لحكم الأحزاب الطائفية، ولمافيات الفساد وتهديم القيم السياسية والأخلاقية، ولم يبق سوى للأقدار والمعجزات أن تزيح عنهم هذا الكابوس المرير. هذا الحكم حتى وإن بدا مقنعا بالظاهر لكنه قاس جدا، نعم في بعض الحالات أقف إلى جانب الصفوف التي غسلت أيديها من قدرة هذا الشعب المعروف في فصول تاريخه القريب بالمواجهة الحادة والدموية في بعض الأحيان للحاكم الظالم المستبد، ولكن هناك حقيقة واقعية هي أن الشعوب تمر بحالات من التراجع والسبات المظهري حتى يتهيأ للحاكم المتجبر بأنه في أحلى حالات نشوته وانتصاراته، لكنها نشوة مؤقتة، وتأتي اللحظة التي يحدث فيها الانهيار المفاجئ بقوة. ما حصل للعراقيين خلال القرن الأخير لم يحصل لغيرهم من أهل المنطقة، ليس بمقدار الآلام الجماعية بسبب الحروب والحصار فحسب، وإنما لما واجهوه بعد عام 2003 من سياسات الخداع والكذب، والتضليل باسم الديمقراطية من جانب، وباسم المذهب والدين من جانب آخر. هناك معركة خفية لكنها قاسية بين شعب العراق وبين طبقة الانحطاط السياسي الحاكمة والراغبة في تجديد هذا الحكم، افتقد فيها أبناء هذا الشعب أسلحتهم السياسية التقليدية، لأن قوتين خارجيتين نفذتا مشروعا واحدا استهدف نزع عناصر القوة من بين أيديهم. الأميركان المحتلون قيدّوا العراقيين بالأغلال وبقوة السلاح، وأتباع ولاية الفقيه في طهران المعروفون بدهائهم وحقدهم الدفين غسلوا أدمغة أبنائه من الطائفة الشيعية، وقد جربّت طلائع من هذا الشعب الوسيلة السلمية في قانون الحكام الجدد وهي المظاهرات لكنها قمعت بقسوة وسط اتهامات باطلة، ولهذا يلجأ العراقيون اليوم إلى آخر الأسلحة في هذه المعركة وهي سلاح السخرية والنقد اللاذع ضد طبقة الانحطاط السياسي المهيمنة على المشهد. من بين أبناء العراق هناك نخب ثقافية وفنية شبابية تؤدي هذه الأيام مهرجانا عالي النبرة في مواجهة السياسيين ودعاياتهم الانتخابية الرثة والرخيصة، عبر العديد من الوسائل الإعلامية كالبرامج التلفزيونية الساخرة التي ارتفعت شعبيتها في العراق، والأكثر قوة تلك التي تبث من خارج العراق خوفا من الملاحقة، أو الكاريكاتير الغنائي الساخر ذي المضامين الخاصة بالحملات الانتخابية. الأمثلة لا تحصى ووسائل التواصل الاجتماعي تمتلئ صفحاتها بقصص قد يكون بعضها مبالغا فيه. نتذكر قصة “صخرة عبعوب” الشهيرة حين ادعى أمين بغداد عام 2013 أن صخرة وزنها 150 كيلوغراما قد وضعت بتدبير خارجي في أحد مجاري الصرف الصحي هي سبب فيضان بغداد، أو دعوة وزير الكهرباء الناس في عز الصيف إلى إيقاف تشغيل مسخن الماء الكهربائي إلى درجة أن أطلق الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي نشيد “الكيزر” باللهجة البغدادية أي مسخن الماء، أو نشر صور قلي البيض على أرصفة الشوارع تحت أشعة الشمس الحارقة. وخلال اقتحام مقر البرلمان عام 2016 من قبل شباب ناشطين اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي السخرية من صورة الأريكة (القنفة) التي عليها آثار بقع الدم خلال الاقتحام. وذهب الشعراء لكتابة قصائد عن هذه “الأريكة” متهكمين على وقفة رئيس الوزراء ورئيس البرلمان أمامها بحزن دون الالتفات إلى ما وصفوه بمأساة الشعب العراقي. ليست السخرية والاستهزاء اللاذع وحدهما في ميدان المواجهة الإعلامية للطبقة السياسية الفاسدة، بل تكثر النكتة كذلك بين العراقيين، وقد يمتزج فيها ما يسمى عند أهل جنوب العراق “الحسجة” وهي القصة الرمزية. العراقيون موصوفون بحبهم وحفظهم للنكتة والدعابة اللغوية خلال المجالس والآن عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهناك من بينهم من يمتلك المواهب الخاصة في ترتيب النكات ذات الدلالات السياسية والاجتماعية وطرق أدائها. فقد تردد إطلاق اسم حسين أوباما على الرئيس الأميركي باراك أوباما، حيث سادت شائعات مفادها أن أوباما مسلم من القبائل السودانية التي نزحت إلى كينيا. وتتردد لدى العراقيين نكتة حول فلاديمير بوتين، فتحت عنوان “العراقيون يحبون حجي بوتين” انتشرت حكاية تقول إن بوتين أصله عراقي واسمه الحقيقي عبدالأمير أبوالتين، وأن والده كان بقالا بسيطا يبيع التين في مدينة الناصرية جنوب العراق أسمه أبوالتين، وبعد الحرب العالمية الثانية انتقل للعيش في الاتحاد السوفييتي وتزوج من فتاة روسية شقراء وأنجب منها ولدا أسمياه عبدالأمير لكن كان يصعب على الروس نطق اسم بهذا الشكل فأصبحوا ينادونه فلاديمير كما أطلقوا على والده اسم بوتين. ومن النكات الشائعة نكتة تقول إن عصابة من ميليشيات الحرامية والقتل على الهوية في العراق أوقفت سيارة فيها رجل وزوجته، وبعد مصادرة كل ممتلكاتهما طلب رئيسها من أتباعه إعدام الزوجين، وقبل التنفيذ سأل المرأة عن اسمها فقالت جاسمية. فرح رئيس العصابة وقال لها بأنه سيعفيها من الإعدام لأن أمه تحمل نفس الأسم، ثم سأل زوجها عن اسمه فقال الرجل بخوف: “اسمي محمد علي.. بس الكل يدلعوني ويصيحوني جاسمية”. ومنذ بدء الحملة الانتخابية في العراق قبل موعدها المقرر في العاشر من أبريل 2018 سارع أصحاب المال المسروق الموظف جزءا منه للسياسة إلى فتح مراكز للدعاية بطرق رخيصة سواء في مظاهرها أو موظفيها، ويتم تداول أرقام فلكية لمصاريف تلك المراكز، ما يقال إن الكلفة الشهرية لأحد المراكز مليون دولار حسب تصريح لأحد النواب، فيما رصد نائب ثري 7 ملايين دولار لحملته. ونجد أن مقدم البرنامج يتحول إلى مرشح لمجلس النواب، فيما يصبح نائب آخر مقدما لبرنامج تلفزيوني مدفوع الثمن في قناة فضائية لأحد المقاولين التجار، فيما تم تأجير ساعة تلفزيونية من قبل إحدى القنوات العراقية “المستقلة” لرئيس إحدى الكتل السياسية ليوظفها عبر برنامج تلفزيوني يقدمه أحد الإعلاميين الذي يحاول المزاوجة بين مهنته وطموحه الانتخابي أيضا. التنافس وصل إلى حد العراك عبر الفضائيات على الرقم واحد داخل القائمة الانتخابية. هل يمكن تصور أن مثل هذه المستويات التي تصر على عبور جسر الانتخابات المقبلة تمثّل مطالب الناس عبر إعلاناتهم الرثة على أعمدة الكهرباء الخالية من الطاقة، أو جدران بغداد الحزينة أو أساليب مخادعة النازحين الذين لم يعودوا إلى ديارهم بعد طرد داعش وإحلال قوات عسكرية ميليشياوية لفرض الأسماء المطلوبة في نينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى وأجزاء من كركوك. هؤلاء المتصدرون للحملة الانتخابية يعتقدون بأنهم عباقرة في الخداع ويستندون في ذلك إلى إرث الانحطاط السياسي الذي بدا عام 2003، وإذا كان الشعب العراقي يستخدم اليوم آخر أسلحة المواجهة وهي السخرية إضافة إلى الصبر فهذا لا يعني نهاية المطاف، والله في عون العراقيين المظلومين.
مشاركة :