الضربات الغربية القادمة على النظام السوري هي نتيجة عابرة لعملية الاختبار الاستراتيجي المستمرة بين القوى العظمى منذ بداية الحرب السورية. أهم أدوات الاختبار هو السلاح الكيمياوي. ليس السبب الوحيد وراء رد الفعل الغربي المتصاعد الآن الخوف من كسر أهم قواعد النظام العالمي المتعلقة باستخدام الأسلحة الكيمياوية منذ اتفاق هلسنكي بين الشرق والغرب عام 1975. المسألة لها بعد محلي أيضا متصل بمفاتيح التحكم في مجريات الصراع في سوريا على الأرض. كلما يحدث تغير جوهري على الساحة الدولية، خصوصا في الولايات المتحدة، تظهر حاجة الروس والإيرانيين لاختباره، وتلمّس حدود الإطار الذي يمكن التحرك داخله وفقا لهذا التغير. الهجوم الكيمياوي الأكبر على الغوطة الشرقية عام 2013 كان اختبارا للخط الأحمر الذي وضعه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، واستكشافا لمدى تمسك إدارته بالمحادثات مع إيران، التي كانت تجري بشكل سري آنذاك، حول برنامجها النووي. أثبت أوباما أن التوصل إلى اتفاق نووي مع الإيرانيين أولوية مقدمة على أي “خط أحمر” في سوريا أو غيرها. الضربة العسكرية القادمة على سوريا لن تفعل أي شيء سوى تقوية نظام الأسد، لو لم تصاحبها ضربة سياسية أقوى عندما صعد الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2017، كان المعسكر المؤيد لنظام الرئيس السوري بشار الأسد في حاجة إلى تلمس خطاه في التعامل مع الإدارة الجديدة، واكتشاف ما هو مسموح وليس مسموحا به. لذلك جاء الهجوم على بلدة خان شيخون، أيضا بالأسلحة الكيمياوية. رد الفعل الأميركي باستهداف مطار الشعيرات كان إيذانا بأن ثمة شرطيا جديدا قد وصل إلى الساحة الدولية. تعلّم ترامب ماذا يحصل للرؤساء الذين لا يلتزمون بالخطوط الحمراء التي يضعونها لأنفسهم، وأراد تجنب نفس المصير. العقلية التي تدير قناعات ترامب والاتهامات بالعلاقة مع روسيا التي لا تزال تلاحقه منذ أن كان مرشحا، دفعته لتبني هجوم محدود ومدروس وتفاصيله معلنة، حتى للروس أنفسهم. لم يكن هدف ترامب وقتها إلحاق خسائر كبيرة بالنظام السوري، بقدر ما أراد الوصول إلى النتيجة الأبعد من ذلك، وهي وقف الانهيار المتسارع لنفوذ الولايات المتحدة في المنطقة حينها، واستعادة زمام المبادرة، من دون التورط أكثر في الصراع. الهجوم الكيمياوي على دوما له أبعاد مغايرة، من حيث الظـروف الـدولية والإقليمية ووضع ترامب نفسه في الداخل الأميركي. ثمة صراع محتدم مع الروس، منذ محاولة اغتيال العميل الروسي السابق سيرجي سكريبال على الأراضي البريطانية. قادت بريطانيا زخما دوليا تهدف من ورائه إلى عزل روسيا تماما. مسألة سكريبال نفسها تكاد تتطابق مع الهجوم على دوما بالكيمياوي، من حيث النظرة الروسية للهجومين، والأهداف التي تسعى موسكو للوصول إليها من خلالهما. كما كان هجوم دوما، ومن قبله الهجوم على الغوطة وخان شيخون وغيرهما، اختبارا روسيا للتحولات الاستراتيجية في العالم، يظل استهداف سكريبال، كما كان اغتيال العميل السابق ألكسندر ليتفينينكو عام 2006، اختبارا مماثلا. ليس السبب الوحيد وراء رد الفعل الغربي المتصاعد الآن الخوف من كسر أهم قواعد النظام العالمي المتعلقة باستخدام الأسلحة الكيمياوية منذ اتفاق هلسنكي بين الشرق والغرب عام 1975 مات ليتفينينكو، واكتفى الطرفان بطرد متبادل لعدد قليل من الدبلوماسيين، وبحرب تصريحات لحظية سرعان ما هدأت. لكن رغم بقاء سكريبال وابنته يوليا على قيد الحياة، يشن الغرب حربا أكثر من باردة على روسيا. صحيح أن روسيا كانت قادرة على طرد دبلوماسيين وعملاء استخبارات غربيين، ردا على طرد دبلوماسييها وعملائها من دول غربية عدة، لكنها أيقنت أنها لا تستطيع الرد على طردها تماما من دائرة التحكم بأدوات النظام العالمي الجديد. الفرق بين الرد المحدود على الروس في حادثتي اغتيال ليتفينينكو واستهداف خان شيخون بالكيمياوي، والتصعيد الذي نراه اليوم إزاء استهداف سكريبال وضرب دوما بالكيمياوي أيضا، هو التغير المتسارع في معطيات الصراع الدولي. حادثة دوما تحافظ على الزخم الذي خلقته بريطانيا بعد محاولة اغتيال سكريبال. أي متابع للصراع الدبلوماسي يوم الثلاثاء مساءً في مجلس الأمن سيلحظ منذ الوهلة الأولى عزلة روسيا المتزايدة. الأمر كان أشبه بمباراة ملاكمة غير متكافئة بين لاعبين، أحدهما يكيل اللكمات للآخر، الذي يتظاهر أمـام الجمهور بأنه قادر على تحملها، بينما تتفجر الدماء من كل أنحاء جسده. دم روسيا سال بين الأمم في هذا اليوم. لن يكون التحرك العسكري الغربي في سوريا ضربة قاضية للروس، ولا للنظام السوري، طالما ظل “تحركا عسكريا”، وليس أكثر من ذلك. ما قد يؤذي النظام حقا هو استغلال الماراثون الدبلوماسي الحاصل الآن خلف الكواليس لتعديل المسار السياسي الذي صار بلا أفق. مشكلة الولايات المتحدة والقوى الأوروبية أنها لم تعد ترى في الصراع السوري في مرحلة ما بعد داعش سوى الوجود العسكري المحدود لقواتها في شرق الفرات والمناطق الغنية بمصادر الطاقة، والسلاح الكيمياوي. هذا هو ملخص الأزمة ومفتاح إدارة ما تبقى منها ضمن حصص الغرب. لا اهتمام غربيا آخر إزاء المسألة برمتها. لم يعد الغرب مثلا يرى مشكلة في القبول بالحل العسكري والتسوية الروسية، القائمة على تثبيت الأسد في الحكم، وإبقاء غالبية السوريين خارج المعادلة الجديدة في بلادهم. الغرب يعلم أن هكذا تسويات لا تستمر طويلا، وتقود حتما إلى واقع فوضوي لا ينتهي سوى بإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، لكن بعد دفع كلفة كبيرة. لكن يبدو أن الأميركيين خصوصا فقدوا صبرهم، وقرروا توريط الروس بتحمل عبء الأزمة بالكامل. إضعاف الأسد لا يتم عبر الضربات العسكرية. الدبلوماسية، المصاحبة لهذه الضربات، هي السلاح الحقيقي الذي يخاف منه معسكر النظام. هذا ما قام به بيل كلينتون عندما أراد فرض حل في يوغوسلافيا. لو كان الأميركيون يسعون حقا إلى دفع كل أطراف الصراع، بما فيهم الروس والإيرانيون، إلى التوصل إلى حل نهائي، لكانوا في سباق الآن مع الزمن للضغط على موسكو ودمشق لتقديم تنازلات سياسية، مقابل إلغاء الضربة أو تحديد نطاقها. ثمة كثير من هذه التنازلات. بعضها قصير الأمد، كدفع الروس لامتصاص اندفاع تركيا والضغط عليها لوقف التهديدات باجتياح منبج، وتوقف موسكو عن العمل على توسيع الفجوة في العلاقات بين تركيا وحلفائها في الناتو، من خلال تفاهمات أستانة. أول التنازلات بعيدة المدى التراجع عن فكرة اختصار المسار السياسي في كتابة دستور جديد، وتهميش مسار جنيف تماما، ومحاولة خلق آلية جديدة تتحكم بها روسيا مع تركيا وإيران حصرا. هذه المقاربة الغربية المفترضة كافية كي تكون بداية لتعديل موازين القوى، إذا فهم أطراف الصراع أن المكاسب العسكرية السـريعة التي يحققها الأسد كل يوم ليس لها معنى من دون إعادة إدماج الأغلبية السنية، التي شكلت حاضنة الثورة على الأسد، في المعادلة السورية. المسألة تحتاج فقط إلى قيادة غربية قـادرة على تحجيم طموح روسيا الذي يتخطى إمكانياتها الحقيقية. الضربة العسكرية القادمة على سوريا لن تفعل أي شيء سوى تقوية نظام الأسد، لو لم تصاحبها ضربة سياسية أقوى.
مشاركة :