يقول الله عز وجل: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، (سورة الجمعة الآية: 6)، نعم أولياء الله لا يكرهون الموت بل يتمنونه بما قدمت أيديهم، واليوم نتوقف مع الساعات واللحظات الأخيرة من حياة إمام الأئمة، وحامل لواء الحديث، ومعيار الصحة والقبول، الإمام الكبير أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري العالم التقي الورع المحدث الذي تعرض للابتلاء، فصبر واحتسب، فقد أثاروا حوله الشائعات بأنه يقول بخلق القرآن، حتى اضطر لأن يترك «نيسابور» ويذهب إلى «بخارى» موطنه الأصلي.يقول إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي في كتاب «البداية والنهاية»: «فهذا تلميذه محمد بن شاذل يقول: دخلت على البخاري لما وقع فيه محمد بن يحيى فقلت: يا أبا عبد الله، ما الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى، كل من يختلف إليك يطرد؟ فقال البخاري: كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء».وقال أحمد بن سلمة: «دخلت على البخاري فقلت: يا أبا عبد الله هذا رجل مقبول بخراسان خصوصاً في هذه المدينة، وقد لج في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه فما ترى؟ فقبض البخاري على لحيته ثم قرأ: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، (سورة غافر الآية: 44)، ثم قال: «اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشراً ولا بطراً ولا طلباً للرياسة وقد قصدني هذا الرجل (يقصد الذهلي) حسدا لما آتاني الله لا غير، ثم قال لي: يا أحمد إني خارج غدا لتتخلصوا من حديثه لأجلي، فقال أحمد بن سلمة: فأخبرت جماعة من أصحابنا بخروج الإمام، فوالله ما شيعه غيري وكنت معه حين خرج من البلد». الأمير الظالم وكان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الآخرة دار البقاء، وقد رجع بعد المحنة التي تعرض لها إلى موطنه الأصلي بخارى فحصلت أزمة بينه وبين أمير البلد الذي طلب منه أميرها أن يوافيه ليسمع أولاده منه، لكنه رفض أن يخصه بمجلس علم دون عامة الناس، فنفاه، وأجبره على الخروج من بخارى إلى قرية «خرتنك» فدعا عليه البخاري، فلم يمض سوى شهر واحد حتى عزل هذا الأمير من منصبه وسجن، وذلك بدعوة البخاري عليه. فتوجه البخاري إلى تلك القرية القريبة من سمرقند، فاشتد البلاء بالإمام، حتى دعا: «اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك». فما تم الشهر حتى مات.وروى الدكتور سيد بن حسين العفاني في كتابه «أحوال الطيبين الصالحين عند الموت»، أن قتيبة بن سعيد قال: «لو كان محمد بن إسماعيل في الصحابة لكان آية. وقال ابن عدي: سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتنك - قرية - على فرسخين من سمرقند وكان له بها أقرباء فنزل عندهم، فسمعتُه ليلة يدعو، وقد فرغ من صلاة الليل: «اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك» فما تم الشهر حتى مات. وقبره بخرتنك. أطيب من المسك وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت أبا منصور غالب بن جبريل، وهو الذي نزل عليه أبو عبد الله يقول: «إنه أقام عندنا أياماً، فمرض واشتدّ به المرض حتى وجه رسولا إلى مدينة سمرقند في إخراج محمد، فلما وافی تهيأ للركوب، فلبس خفيه، وتعمم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها، وأنا آخذ بعضده، ورجل آخر معي يقوده إلى الدابة ليركبها، فقال -رحمه الله-: أرسلوني، فقد ضعفت، فدعا بدعوات، ثم اضطجع فقضي - رحمه الله-. فسال منه العرق شيء لا يُوصف. فما سكن منه العرق إلى أن أدرجناه في ثيابه». «وكان فيما قال لنا، وأوصى إلينا أن كفنوني في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ففعلنا ذلك، فلما دفن فاحت من تراب قبره رائحة غالية أطيب من المسك، فدام ذلك أياما ثم علت سواري بيض في السماء مستطيلة بحذاء قبره، فجعل الناس يختلفون ويتعجبون، وأما التراب فإنهم كانوا يرفعون عن القبر، حتى ظهر القبر ولم نكن نقدر على حفظ القبر بالحراس. وغلبنا على أنفسنا، فنصبنا على القبر خشباً مشبكاً لم يكن أحد يقدر على الوصول إلى القبر فكانوا يرفعون ما حول القبر من التراب، ولم يكونوا يخلصون إلى القبر.. وأما ريح الطيب فإنه تداوم أياما كثيرة، حتى تحدث أهل البلدة وتعجبوا من ذلك، وظهر عند مخالفيه أمره بعد وفاته، وخرج بعض مخالفيه إلى قبره وأظهروا التوبة والندامة مما كانوا شرعوا فيه من مذموم المذهب». قال محمد بن أبى حاتم: «ولم يعش أبو منصور غالب بن جبريل بعده إلا القليل وأوصى أن يدفن إلى جنبه». منام الطواويسي وقال محمد بن محمد بن مكي الجرجاني: «سمعت عبد الواحد بن آدم الطواویسی یقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقف في موضع، فسلمت عليه، فرد علي السلام فقلت: ما وقوفك يا رسول الله؟ قال: أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري، فلما كان بعد أيام بلغني موته، فنظرت فإذا قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها».وقال محمد بن أبي حاتم: «سمعت أبا ذر یقول: رأيت محمد بن حاتم الخلقاني في المنام، وكان من أصحاب محمد بن حفص، فسألته - وأنا أعرف أنه میت - عن شیخی - رحمه الله-، هل رأیته؟ قال: نعم رأيته وهو ذاك، يُشير إلى ناحية سطح من سطوح المنزل. ثم سألته عن أبي عبد الله محمد بن إسماعيل، فقال: رأيته، وأشار إلى السماء إشارة كاد أن يسقط منها لعلو ما يشير».توفي الإمام البخاري عن 62 سنة، وكان ذلك في الثلاثين من رمضان سنة 256 ه، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر.
مشاركة :