لدى البحث عن قطار الشرق السريع، تجده قطاراً لنقل المسافرين لمسافات طويلة، أُنشئ عام 1883. المسار والمعدات الدارجة للقطار تغيرت مرات عدة. مع أن قطار الشرق السريع كان في البداية مجرد خدمة سكك حديد دولية عادية، ولكنه ومع مرور الزمن أصبح القطار يُرادِف الإثارة والسفر الفاخر. ومن أبرز المدن التي يربطها قطار الشرق السريع باريس والقسطنطينية (إسطنبول). كان قطار الشرق السريع معرضاً من الفخامة والراحة في السفر، وسرعان ما بات مثالاً يُحتذى فمدَّدت شركة سيول خطوطاً فاخرةً أخرى في جميع أنحاء أوروبا، ومنها القطار الأزرق والسهم الذهبي، وخط الشمال السريع، إلخ. وأصبحَت شركة سيول أول وأهم وكيل وشركة للنقل الحديث متعدد الجنسيات، والتي امتدَّت من أوروبا إلى آسيا وأفريقيا. في العام 1977، أُوقِف قطار الشرق السريع عن العمل في إسطنبول. ثم توقف في باريس حيث استبدل بقطار آخر يربط باريس بفيينا، وقد عَمِلَ القطار للمرة الأخيرة في باريس يوم الجمعة 8 حزيران (يونيو) 2007. وإلى الآن مسار القطار يُعرَف بقطار الشرق السريع. وفي 14 كانون الأول (ديسمبر) 2009، توقف قطار الشرق السريع عن العمل واختفت طرق السكك الحديد الأوروبية الخاصة به، حيث يُقال إن قطار الشرق السريع قُضِيَ عليه بسبب القطارات عالية السرعة وخفض أسعار شركات الطيران. السينما على الخط وهنا بالتحديد جاءت السينما لتضفي المعالجة الجديدة، التي قدمها المخرج والممثل كينيث براناه، لرواية «جريمة في قطار الشرق السريع» للكاتبة الشهيرة أغاثا كريستي، طابعاً حيوياً على القصة، ففي الفصل الأول من رواية «جريمة في قطار الشرق السريع»، تصف الكاتبة أغاثا كريستي محققها الشهير هيركيول بوارو بأنه «رجلٌ ضئيل الحجم عظيم الشاربين»، لذا يصعب على المرء أن يُنحي باللائمة على المخرج والممثل كينيث براناه، في أن يُظهر هذا المخبر بلجيكي الجنسية، بشاربٍ كثٍ إلى حدٍ مخيف. فما أبعد الشقة بين هذا الشارب، ونظيريه ذوي المظهر الطبيعي في شكل أكبر، اللذين اتخذا شكل خطٍ رفيعٍ ملتوٍ لأعلى، وظهرا على وجه الممثليْن دافيد سوشيه وألبرت فيني عندما جسدا شخصية بوارو في معالجاتٍ سابقة للقصة نفسها. ولكن يمكنك أيضاً قراءة العمل ككوميديا سوداء ذات إسقاطات غير مقصودة. ففي «جريمة في قطار الشرق السريع»، يحاول براناه -وهو مخرج العمل وبطله في الوقت ذاته- أن يحوّل هذه الأحُجية المعقدة التي أبدعتها قريحة كريستي إلى فيلمٍ ناجحٍ وباذخٍ ومفعمٍ بالحيوية. ولا شك في أن هذه النزعة التي تتسم بالسخاء وتحظى بحب غالبية الجماهير، هي ما يجعل النسخة الجديدة من «جريمة في قطار الشرق السريع» ممتعةً على نحوٍ دافقٍ ومتجدد. بيد أنها تشكل أيضاً أحد الأسباب التي تجعل هذه المتعة تتلاشى حتى تنفد تماماً، وتؤدي إلى أن يفقد الفيلم قوته الدافعة قبل وصوله إلى مقصده. إلى جانب ذلك، أضاف براناه وكاتب السيناريو مايكل غرين إلى أحداث الفيلم، بعض أعمال التحري والبوليس السري التي لم تتضمنها الرواية. فالمشاهد الافتتاحية للعمل، تُظهر بوارو وهو يتباهى ويتفاخر ببراعته في الشوارع الصاخبة لمدينة القدس في العام 1934. نعم قد تبدو هذه المشاهد هزليةً نابضةً بالحيوية، وتُذّكِر بما تضمنته أفلام «شارلوك هولمز» التي قام غاي ريتشي ببطولتها. كما أنها تضفي مزيداً من العمق والسمت الانفعالي والعاطفي على شخصية بوارو، كما لم تفعل أيٌ من الأفلام المستوحاة من روايات أغاثا كريستي من قبل. فإلى جانب كون المحقق الشهير -كما جسده براناه في العمل- كيَسّاً وعطوفاً ولطيفاً، فإنه كذلك مُغرم بالإتقان والكمال إلى حد مُهلِك ومُعذِب، من حيث كونه مهووساً بالتناظر والتناسق، إلى حد أنه يشعر عندما يضع قدمه عرَضاً في كومة من الروث أو السماد، بأنه من اللازم عليه وضع القدم الثانية فيها أيضاً، وذلك نُشداناً للتماثل والتوازن. المخرج والممثل كينيث براناه وبمجرد أن ينظف حذاءه، يتلقى استدعاءً للسفر على وجه السرعة إلى لندن، وهو ما يضطره إلى أن يحجز في اللحظات الأخيرة قبل انطلاق «قطار الشرق السريع» سريراً في إحدى مقصوراته، ليخوض رحلةً مع مجموعة من الركاب المثيرين للاهتمام. من بينهم، راكبٌ ذو ندبة على وجهه يحمل مسدسه دائماً، ويلجأ إلى الغش والخداع لتحقيق أهدافه (جوني ديب). ويرافق هذا الرجل سكرتيره الذي يلقى منه دوماً معاملة سيئة (جوش غاد)، وكذلك خادمه الخاص أو لنقل وصيفه المتكتم (ديريك جاكوبي). وتضم قائمة الركاب شقراء تعمل دوماً على إظهار مدى الحزم في شخصيتها عبر الصراخ والوقاحة والعجرفة، بل وتُطلق على نفسها اسم «صائدة الأزواج» (ميشيل فايفَر). كما نرى بين الركاب أميرة روسية متغطرسة (جودي دَنِش) وخادمتها الألمانية (أوليفيا كولمان)، بالإضافة إلى أستاذ جامعي نمساوي عنصري (ويليم دفاو). وتشمل القائمة كذلك مُبشرة إسبانية (بينلوبي كروز) ومربية بريطانية مُفعمة بالحيوية (دايزي ريدلي)، وآخرين أيضاً. يمكنك أيضاً قراءة هل يقدم الفيلم الثالث من سلسلة «كينغزمان» أي جديد؟ وفي ظل وجود هذا العدد الكبير من الشخصيات المثيرة للاهتمام والإعجاب، والممثلين المشاهير المشاركين في العمل، يبدو من المؤسف أن أدوارهم جاءت محدودةً بالقدر الذي ظهرت عليه على الشاشة. جمل حوارية عابرة وعلى الرغم أن كاتب السيناريو غرين وضع على لسان كلٍ منهم عباراتٍ يكشفون من خلالها عن خلفياتهم وتوجهاتهم وميولهم السياسية، فإنه لم يتسن لأيٍ منهم أن يتفوه بأكثر من بضع جُمَلٍ حوارية، إلى حد أن الحوار الذي ورد على لسان ممثلة مثل «دَنِش»، استغرق بالقطع وقتاً أقل من ذاك الذي كرسته لارتداء الثياب الفخمة التي صورت بها المشاهد. على الرغم ذلك، ثمة عناصر كثيرة في المشاهد الأولى للعمل تجعل المرء يقع في غرامها، على غرار الحركة المستمرة التي نراها سواء للكاميرا أو للقطار في تلك المرحلة، وهو ما يضخ في شرايين العمل حيويةً ونشاطاً يصيبانك بالدوار، على نحوٍ لم يكن متوافراً في نسخة الفيلم التي قدمها المخرج والمنتج وكاتب السيناريو الأمريكي سيدني لوميت عام 1974. الواقع أنه لم يقدم أي فيلم سينمائي من قبل تجربة السفر في مقصورات الدرجة الأولى لقطارٍ يعود إلى عصر البخار، بالبهاء والروعة اللذين ظهرا في فيلمنا هذا، إلى حد أن الأمر يستحق بالفعل أن يشتري المرء بطاقة دخول لمشاهدة الفيلم، فقط للاستمتاع بتذوق مشاهد المناظر الطبيعية للجبال الشاهقة المحيطة بمسار القطار. أضف إلى ذلك مشاهدة تلك الزخارف وقطع الأثاث المتألقة اللامعة المُنتمية لموجة «آرت ديكو» للتصميم الفني، وكذلك للاستماع إلى موسيقى الجاز التي توّلد إيقاعات جذابة ومؤثرة، وأيضاً لكي ينعم الإنسان بمرأى مشاهد تقديم الطعام التي تُسيل اللعاب. الاستثناء الوحيد هنا يتمثل في توظيف منتجٍ لم يبد ملائماً لشركة شوكولاتة، يُخلّف تناوله مذاقاً كريهاً في الفم. ولكن في وسط ذلك المشهد كله، تقع جريمة القتل؛ بعبارة أخرى عملية الطعن التي تحدث قبيل اضطرار القطار إلى التوقف بفعل الثلج جراء الرياح العاتية. وبينما تُصوّر الرواية الأمر على أنه مجرد تراكمٍ للثلوج بسبب العواصف، يصوّره الفيلم على نحو أكثر دراماتيكية بطبيعة الحال، إذ يضرب لسانٌ من البرق الجليد ليُحْدِثَ انهياراً ثلجياً مدوياً، ما يُخْرِجَ «قطار الشرق السريع» عن مساره. قد لا أغالي هنا إذا قلت إن الفيلم كله يخرج في تلك اللحظات عن سكته بدوره، ولكن ربما دون أن يتسنى له أن يعود للانطلاق بسرعته السابقة بعد ذلك أبداً. وقد يكون تراجع الزخم هذا مَثّلَ أمراً حتمياً. بالطبع، يكرس براناه كل جهوده لهذا الصراخ والصياح. فقصص كريستي التي يدور السؤال الأهم فيها حول «من فعلها؟» -أي الجريمة- تحظى بالإعجاب والحب من الجماهير، نظراً لما تنطوي عليه من حبكات مُحكمة ومبتكرة وبارعة، وليس لأنها تحكي عن رجالٍ بشوارب كثيفة، يعدون غاضبين فوق الثلوج.
مشاركة :