ثمة الكثير مما يمكن نقاشه بعيداً من العصبيات السياسة والعصبيات الطائفية التي أنتجها نظام الحكم في سورية خلال حربه الممتدة على الشعب السوري منذ سبع سنين، وبمناقشة لما تبقى لهذا النظام عملياً من إمكانات يستطيع من خلالها استعادة ذاته كنظام حاكم أولاً، ومن زاوية قراءة متحركة، بين مجموع مناطق النفوذ التي توزعت عليها سورية مآلاً، بعد استتباب خرائط اتفاقات «آستانة» بين الشركاء الثلاثة (روسيا، إيران، تركيا)، حيث يمكن وصفها بأنها أقل من احتلال مباشر، واكثر من وصاية دولية مرجعية، بينما يبقى شكل سورية التي يتحدث عنها النظام حتماً على مسافة بعيدة جداً مما يمكن وصفه «دولة ذات سيادة». ولعل ذلك يجعل التساؤل اليوم بداهة، بين كل السوريين مؤيدين ومناهضين لهذا النظام، عن الناتج الحقيقي لما يسميه رئيس النظام بشار الأسد «انتصارات عسكرية» على الأرض، وضد مجموعات يسميها «إرهابية»، وهو الذي كان منذ حين قريب يجلس ممثلوه مقابلها «كشريك» على طاولة التفاوض في (آستانة والقاهرة وجنيف)، ثم عاد ليسحق أماكن نفوذها في المدن والمناطق السكنية بكل الأسلحة المتوفرة لديه، بما فيها المحظورة دولياً «كالكيماوي»، مبرراً ذلك بأنها حرب على الإرهابيين، رغم أن ما خرج من صور توثق ما حدث ويحدث في «الغوطة مثالاً» يؤكد أن المستهدفين، من قبل النظام ومن معه (إيران، روسيا)، هم من النساء والشيوخ والأطفال، وأيضاً من الشباب. والغريب بالأمر، أن هؤلاء الشباب الذين يصنفهم اليوم مع أهاليهم كإرهابيين، هم أنفسهم من يريد هذا النظام تجنيدهم في جيشه، لمتابعة حربه ضد ما تبقى من معارضيه، وكي يساعدوه في تثبيت أركان حكمه الواهية. فهل يتابع حربه على الإرهاب بجيش من «الإرهابيين»؟ إذا ذهبنا بعيداً في تصديق رواية النظام حول «انتصاراته»، وأنه فعلياً استطاع أن يعيد الغوطة ومحيطها إلى ما كانت عليه سابقاً تحت نفوذ قواته الأمنية والعسكرية، فهل هذا يعني أنه يستطيع استعادة نفوذه الدولتي والسياسي أيضاً؟ بمعنى آخر، ماذا عن النفوذ الإيراني والروسي الذي يعيق تبلور مظاهر السيادة السورية في المناطق التي يتجول فيها «الأسد» تحت الحراسة الروسية مرة والحماية الإيرانية ثانية؟ وما هو مصير النظام وسيادته حيث تتقاسم الولايات المتحدة وتركيا ما يقرب من 40 بالمئة من مساحة سورية في الشمال والشرق والجنوب؟ وأين تقع محافظة حلب الآيلة للانزياح إلى حكم تركيا، بعد كل معارك «التحرير» الوحشية التي خاضها نظامه مع روسيا وإيران عام 2016، ضد الفصائل المحسوبة على المعارضة تارة، وعلى تركيا تارة أخرى؟ وربما السؤال الملح اليوم هو: ماذا عن ما بعد الإدانات الدولية في استخدام الأسلحة الكيماوية، هل درس الأسد خياراته قبل أن ينفذ استشارات إيران الكارثية في استخدام أقصى حدود العنف، وكل أنواع الأسلحة ومنها المحرمة، لكسب معركة محيط دمشق، على حساب تقويض صدقية موسكو، والتزاماتها تجاه المجتمع الدولي في ضمان تخلص النظام من أسلحته الكيماوية؟ يعرف النظام السوري أنه ليس استثناء «دائما» في النجاة من العقوبات، وأن الحماية التي يلقاها اليوم من روسيا مرهونة بتحقيق مصالحها، واستعادة أدوارها دولياً، ما يعني أنها حماية موقتة تنتهي مع انفتاح المجتمع الدولي عليها، وتحقيق رغباتها في استحضار الملفات الدولية التي ترهق اقتصادها، وتعيق تطوير صناعاتها التكنولوجية وحتى العسكرية. وما يمكن الانتباه إليه أن العلاقات الروسية الإيرانية ليست استراتيجية، وإنما آنية ووليدة ظروف دولية، راهنت موسكو على أن استخدامها كورقة تفاوض، من شأنه أن يمنحها أسهماً إضافية في بورصة التفاوض الدولي على تقويض نفوذ إيران، وهو الأمر الذي يجعل من إيران حذرة ومتوجسة باستمرار تجاه مخططات موسكو التفاوضية، ما أدى أكثر من مرة إلى تعطيل وخرق الهدن التي عملت عليها موسكو، ضمن ما سمي المصالحات المحلية، كما أنها من عطل تنفيذ اتفاقات خفض التصعيد في الغوطة التي أبرمتها موسكو منفردة مع الفصائل في القاهرة وجنيف، وتسعى باستمرار لاستدراج الجنوب لمعارك تقوض الاتفاق الروسي- الأميركي الذي جرى في عمان، وهو ما يجعل الشك قائماً بأن إيران قد تكون الفاعل الرئيسي بقضية قصف دوما بالسلاح الكيماوي المحظور دولياً لإحراج روسيا من جهة، ولمعرفة أقصى حدود التدخل الأميركي الذي دأب الرئيس الأميركي دونالد ترامب على التلويح به خلال الفترة الماضية. ووفقاً لما تقدم فإن النظام السوري الذي يعمل بخطة استرجاع هيمنته كقوة عسكرية، على المناطق التي تحيط بدمشق العاصمة أولاً، وصولاً إلى ما تبقى مما يمكن تسميته سورية المفيدة، عليه أن يتوقف عند حقيقة أن هذه المناطق بمجملها ليست ما كانت عليه قبل عام 2011، من حيث البنية المجتمعية التي عمل مع إيران على زعزعتها وتغيير أماكن تموضعاتها، بما يرضي إيران أولاً، لتشكل هذه التغييرات حزام أمان طائفي لإيران، وليس لكتلة النظام وخاصة في محيط دمشق، ما يؤجل المواجهة حالياً بين حاضنة النظام وحاضنة إيران، ولكنه في حقيقة الأمر لا يلغيها، على رغم وجود المصالح المشتركة بينهما الآن كمرحلة قابلة للانتهاء. ومن جهة ثانية، فإن هذا التغيير الديمغرافي القسري في ظل وجود حقوق ملكية لأصحاب الأرض الحاليين سيبقى مرهوناً بالوجود العسكري، أي بحالة حرب دائمة، لن تمكن النظام من تحقيق حلم العودة لممارسة سلطاته، والاستفادة من قطف ثمار قوانين استثماره،إلا بحدود المشاركة المتوقعة من إيران وموسكو، وهما الدولتان اللتان تنتظران التعويض عليهما من أموال إعادة الأعمار المحتملة وليس الانفاق من جيوبهما. وخلاصة القول، نعم، بإمكان الأسد الآن ادعاء انتصاره على الفصائل المسلحة، وعلى المدنيين في محيط دمشق، ولكنه خلال مسيرة حربهالطويلة لم يترك فرصة لنجاته سياسياً، وأوغل في تسليم أمور دولته لكلا الشريكين غير النزيهين في التعامل معه، لجهة شراكتهما مع الجانب التركي الذي يحتسبه «عدواً»، ولجهة توريطه في استفزاز المجتمع الدولي، في لحظة يمكن تسميتها أنها «انتحار سياسي» مقابل نصر وهمي، ما يضع الأسد ونظامه أمام مراهنات كارثية، حيث بمسايرة شركائه يخسر نصف سورية لتركيا والولايات المتحدة الأميركية، وتصبح أنقرة صاحبة القرار في كبرى مدنهالاقتصادية حلب عاصمة الصناعة والتجارة، وإدلب مركز الثروة الزراعية وصولاً إلى أطراف اللاذقية، بينما تتحكم الولايات المتحدة بحدوده وثرواته الباطنية، ويبقى له تقاسم سورية «المفيدة» مع إيران وروسيا، له منها الحكم شكلاً، وليس فعلاً، ما يجعل تلك الحاضنة التي واكبته هي الخاسر الآخر، بعد النظام، في واقع العداء الذي قسم سورية إلى سوريات والسوريين، إلى أتباع وأعداء، وفي مواجهة بعضهم بعضاً. * كاتبة سورية.
مشاركة :