«تلك المعركة التي خاضها مونتانيْ كي يحافظ على حريته الداخلية، والتي ربما كانت أشرس وأوعى معركة خاضها عقل بشري في كل الأزمان، ليس فيها في حد ذاتها ما هو مثير أو بطولي. فالحال أننا سنكون قد أسأنا إلى مونتانيْ إن نحن أدخلناه في سلك الشعراء أو المفكرين الذين ناضلوا بالكلمة في سبيل «حرية الإنسان». فهو لم يكن يمتلك ما لدى اللورد بايرون أو شيلر من الكلام المنمق أو الاندفاعات الجريئة، ولا ما لدى فولتير من نزعة هجومية. بل كان من شأنه أن يقهقه ضاحكاً، إذ يجد أن ثمة من يرى أنه كان يريد أن ينقل إلى رجال آخرين، أو حتى إلى جماهير عريضة، شيئاً له من الذاتية ما للحرية الشخصية. ومن هنا نراه يكره في أعماقه أولئك الإصلاحيين المحترفين الذين يملأون العالم والمنظرين وتجار الأيديولوجية... بمثل هذه الكلمات التي كانت بعض آخر ما كتبه في حياته وهو يستعد على الأرجح لوضع حد لتلك الحياة بالتضامن مع زوجته حين كان يعيش آخر أيامه منفيا في البرازيل، تحدث الكاتب النمساوي ستيفن تزفايغ عن المفكر الفرنسي ميشال مونتانيْ... وكان ذلك في السيرة التي كرسها له فكانت آخر كتاب وضعه، الكتاب الذي لم ينشر للمرة الأولى إلا بعد قرابة العقدين من انتحار تزفايغ وزوجته في وقت كانت الجيوش النازية تواصل زحفها على أوروبا مهددة العالم، ساحقة في طريقها كل تلك القيم الإنسانية التي أمضى صاحب «حذار من الشفقة» و «اختلاط العواطف» حياته مدافعاً عنها. > والحقيقة أن اكتشاف هذا النص الذي كان مجهولا حتى العام 1960، فاجأ المعنيين بأدب وفكر تزفايغ. فهؤلاء كان يعتقدون ان الكاتب قد وضع كل أفكاره وخيباته في كتبه العديدة ولا سيما منها كتاب مذكراته، وحاولوا دائما أن يستخلصوا أفكاره وربما وصية فكرية وأخلاقية له، من خلال تلك الكتب. غير أن اكتشاف كتابه عن مونتانيْ، وضعهم في شكل مباغت أمام وصية متكاملة. وأمام وصية ذاتية جعلت كثراً يقولون إن تزفايغ، بمقدار ما كتب عن المفكر الفرنسي الكبير، إنما كتب عن ذاته هو. في معنى أنه ألبس مونتانيْ عباءته وراح يرسم من خلاله سلم القيم التي يؤمن بها، وتراتبية فكرية وأخلاقية ندر أن خلّفها كاتب وراءه. ولعل صغر حجم هذا النص- أو شكلياً: هذه السيرة التي كتبها ستيفن تزفايغ لتُضاف إلى سير عديدة أخرى كتبها لبعض كبار التاريخ من أمثال بلزاك وفوشيه وإيراسموس وحتى ماري أنطوانيت- هو الذي اعتاد أن يكتب بضع مئات من الصفحات لكل سيرة من تلك السير، يفسر البعد الذاتي لنص كان من الواضح أنه إنما يكتبه على عجل وقد بيّت في نفسه أمراً لن يقدم عليه إلا حين ينتهي من صياغة النص. > ومن هنا قد تكون خير طريقة لقراءة «مونتانيْ» تزفايغ، هي أن يبدأ المرء بقراءة أي سيرة كتبت للرجل ثم بقراءة بعض رواياته الأساسية. وحينها إذ يُقرأ كتاب مونتانيْ بصفحاته القليلة، سيكتشف القاريء أن المؤلف إنما يتحدث عن نفسه. عن فكره هو. عن قيمه هو. وعن حريته هو... تلك الحرية التي كثيرا ما كان يقول انه في حياته لم يملك ما هو أعز منها. ويقينا أنه حين انتحر وزوجته في البرازيل إنما كان الإنتحار مجرد تعبير عن خوفه/خوفهما من خسارة تلك الحرية. في هذا المعنى ربما يصح القول إن نص كتاب «مونتانيْ» هو أشبه بتلك الرسالة التي يصر المنتحر على كتابتها قبل لحظاته الأخيرة محاولاً فيها تفسير ما سوف يقدم عليه. > مونتانيْ كان القناع الذي اختبأ تزفايغ وراءه، محاولاً حتى لحظاته الأخيرة وفي خاتمة نصوصه، أن يبقى أنيقاً في أسلوبه حييّاً في تعبيره عن عواطفه متكتماً في بوحه... ومن هنا سرعان ما اتخذ هذا النص مكانة أساسية وشديدة الخصوصية في المتن الكتابي لتزفايغ، إذ إنه نادراً ما احتسب ضمن إطار السير التي كتبها للآخرين ليعتبر جزءاً من سيرته الذاتية. والحقيقة أن مونتانيْ لم يحضر في شكل مفاجئ في متن تزفايغ الكتابي، بل إن النقاد ومؤرخي الأدب الأكثر جدية، كثيراً ما وجدوا أفكار مونتانيْ وقيمه وتوقه المدهش إلى الحرية ونزعته الإنسانية كلها حاضرة في معظم كتابات الروائي النمسوي الكبير. بل حتى في نصوصه الأكثر ميلودرامية وشعبية-. ولئن كان تزفايغ قد شعر منذ زمن باكر بأن الحقبة التي يعيشها حقبة شديدة الاضطراب تكاد تفتك بالإنسان نفسه أول ما تفتك، فإن مونتانيْ نفسه كان بدوره ابن حقبة مضطربة - حقبة الحروب الدينية - تفتك بالإنسان وفرديته وسعادته أول ما تفتك - ومن هنا لم يكن غريباً ذلك التوازي بل حتى التشابه بين الرجلين، بل كان سيبدو من الغرابة بمكان أن ينهي تزفايغ حياته من دون أن يخصّ مونتانيْ بكتاب خاص. ومن هنا حتى نقول إنه «أجّل انتحاره ريثما ينجز ذلك النص» خطوة نُغرى بأن نخطوها طالما أننا قادرون على أن نقرأ هذا النص باعتباره وصية تزفايغ الأخيرة. > فعام 1941 حين شرع ستيفان تزفايغ وكان قد بات في الستين من عمره، في تدبيج هذا النص في منفاه الإختياري في بيتروبوليس البرازيلية، كان يشعر، كما أشرنا، بأنه رجل محطم تماماً. ومن الطبيعي القول إن ما كان يغمره بشعور الإحباط المطلق، كان مجازر الحرب العالمية الثانية التي كانت هي ما دفعه إلى مبارحة أوروبا التي طويلاً ما كان قد دافع عن وجودها وحريتها ونزعتها الإنسانية، معتبراً أنها آخر معاقل الحرية والتقدم والإبداع في هذا العالم، في تلك اللحظة أدرك محب السلام والتفاهم بين الشعوب الذي كانه تزفايغ، أن ما يفعله هتلر ونازيّوه إنما هو المؤشر الحتمي على اقتراب العالم من نهاية عصور تنويره، وأن الظلمة سوف تحل لتقضي على كل ما أبدعه الإنسان في تاريخه. وهو في تلك اللحظات الصعبة من تاريخه ومن تاريخ العالم، لم يعد يجد أمامه من ترياق إلا أن يقرأ «مقالات» مونتانيْ ويعيد قراءتها. وكانت المفاجأة أنه وجد في كاتب تلك «المقالات» مثلاً أعلى يُتّبع فكرياً وحياتياً. ذلك أنه اكتشف كم أنه ومونتانيْ يتشابهان. فهذا الأخير أيضاً، بدا له من خلال نصوصه، رجلاً يتأمل بحزن كيف تتحطم أمام ناظريه كل تلك القيم الإنسانية على مذبح الحروب الدينية التي ليست في حقيقتها سوى حروب كراهية. وكيف تمحو المدافع والسيوف كل تقدم أحرزه الفكر الإنساني. من هذا المنطلق، وجد تزفايغ في مونتاني مرآة لذاته ووجده قريناً له. وهكذا، من قراءة مونتانيْ بوصفه ترياقاً له، تحول تزفايغ إلى الكتابة «عن» مونتانيْ كترياق من نوع آخر. ولعل العبارة التي لخص بها كاتب القرن العشرين حضور كاتب النهضة المتأخرة في حياته الخاصة هي تلك التي تصف مونتانيْ بأنه «الرجل الذي ظلّ واقفاً وسط الفوضى التي تعم العالم». ونعرف اليوم أنه وصف ينطبق على الكاتبين معاً. > وتزفايغ الذي كان قبل ذلك صاحب تجارب هامة في مجال كتب السيرة، كما ذكرنا أعلاه، عرف هنا كيف يمزج بين السيرة والسيرة الذاتية والمشاعر، بحيث ان النص طلع من بين يديه رقيقا هادئا رواقيا، يتابع اللحظات الأساسية الكبرى في حياة الكاتب الفرنسي. بيد انه كان في الوقت نفسه، أكثر من ذلك بكثير. فلأن تزفايغ الذي عايش أعمق تجليات التحليل النفسي في فيينا فرويد وشنيتزلر، كان هو الآخر يلجأ الى التحليل النفسي في وصف مسالك وأهواء ودوافع شخصياته، ها هو هنا يتعمق في تحليل شخصية مونتانيْ - ولنقل كذلك يتعمق في نوع من التحليل الذاتي - ليرسم لسلفه الكبير صورة تقدمه مفكرا كونيا، وبطلا من أبطال الحرية الداخلية المدافعين، بحسب تعبيره عن تلك «القلعة الداخلية التي يتعين على كل فرد منا أن يشيدها كي يحتمي بها من تقلبات العالم». وكان من الواضح تماما هنا أن تزفايغ لا يتحدث عن مونتانيْ وحريته وقلعته الداخلية، إلا على سبيل المجاز. فالمهم بالنسبة اليه هنا هو ما ينتمي اليه شخصيا من ذلك كله. ويقينا أنه تمكن من تمرير رسالته التي من الواضح انه من بعد ما أنجز تدوينها تنفس بعمق وأدرك انه فعل ما كان عليه أن يفعله. ثم فتح أنبوب الغاز وكانت النهاية نهاية له ولكابوس فيينا ... السعيد.
مشاركة :