بعد نهاية الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتى السابق، انتعشت الآمال بأن عملية تقليص الأسلحة النووية فى كل من روسيا والولايات المتحدة آنذاك، وهما صاحبتا أكبر ترسانتين نوويتين منذ بداية اختراع السلاح الأكثر تدميرًا فى العالم خلال العصر الحديث، قد تجعل من السهل إقناع بقية الدول النووية الأخرى فى أنحاء العالم بتقليص مخزوناتها النووية، كما قد يؤدى إلى ضغط جماعى يمنع القوى الأخرى الطامحة إلى امتلاك أسلحة نووية من مواصلة السعى لتحقيق طموحاتها فى هذا المجال. وفى شهر فبراير عام ٢٠١١، وبعد جدل داخلى محتدم للغاية، صدّق مجلس الشيوخ فى الكونجرس الأمريكى على «معاهدة البداية الجديدة مع روسيا»، ذلك بهدف تقليص وتقييد الترسانة النووية الاستراتيجية بشكل أكبر فى كل من البلدين معًا. وينتهى العمل بهذه المعاهدة فى عام ٢٠٢١، لكن يمكن تجديدها لخمس سنوات إضافية أخرى بموافقة الطرفين على ذلك. لكن يبدو أن مستقبل هذه المعاهدة فى وقتنا الحالى هو محل شك متزايد فى ظل توتر العلاقات بين البلدين. وإذا ما تم التخلى عن المعاهدة أو لم يجر تجديدها على النحو المذكور، فإن هذا سيمثل عقبة رئيسية فى تقييد انتشار الأسلحة النووية على امتداد العالم كله تقريبًا. وفيما يوحى بانتشار روح الحرب الباردة من جديد، تباهى كل من الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، ونظيره الأمريكى دونالد ترامب باعتزامهما تحديث قواتهما النووية، وذلك عبر امتلاك أسلحة جديدة أكثر فتكًا. ولم يكتف ترامب بإعلان أن لديه «زرًا نوويًا أكبر بكثير» من الزر الذى يمتلكه الزعيم الكورى الشمالى كيم جونج أون، بل أكد أنه سيوسع ويطور الأسلحة النووية الأمريكية «أكثر بكثير من أى شخص آخر». وفى الثانى من مارس المنصرم، عرض بوتين مقطعًا مصورًا متخيلاً لرءوس نووية روسية تضرب فلوريدا. ولم يتوان ترامب من جانبه، وأخبر بوتين بأنه إذا نشب صراع تسلح آخر بين البلدين فإن الولايات المتحدة هى مَنْ ستكسبه. وبذلك الخطاب الذى يتكرر بشكل يومى تقريبًا، لا عجب فى أن نجد دولاً نووية أخرى مثل الصين والمملكة المتحدة وفرنسا والهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية تتلكأ فى تقليص قواتها النووية. والصين، وكذلك باكستان، تطوران وتوسعان أسلحتهما النووية. أما الصفقة النووية مع إيران فقد أصبحت محاصرة بمزيد من احتمالات الإلغاء والفشل، وقد رفض ترامب فى الآونة الأخيرة الإقرار بالتزام إيران بالاتفاق المبرم مع الولايات المتحدة وخمس دول أخرى من بينها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، فى أعقاب ما يربو على عشر سنوات من الدبلوماسية. لذا فقد لا يكون هناك مفر من انتشار نووى جديد فى الشرق الأوسط. وإذا لم تتوصل القمة المرتقبة بين ترامب وكيم إلى تنازلات من الجانبين، فمن المرجح أن تعيد اليابان وكوريا الشمالية، العضوان فى معاهدة حظر الانتشار النووي، النظر فى التزاماتهما تجاه المعاهدة. ومن جانبه، أكد رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبي، فى محادثات هاتفية مع ترامب، فى الآونة الأخيرة، على ضرورة مواصلة الضغوط حيال كوريا الشمالية فى جميع أنحاء العالم. ويتوقع أن يجتمع كيم وترامب فى شهر مايو أو يونيو المقبلين فى أول قمة من نوعها بين رئيس أمريكى وزعيم كورى شمالي. وأثار كيم وترامب التوتر حول العالم العام الماضي، إذ دخلا فى حرب كلامية مما أثار المخاوف من نشوب حرب بعد عام نفذت فيه بيونج يانج سلسلة تجارب بهدف تطوير صاروخ برأس نووية يمكنه ضرب أمريكا فى عقر دارها. وتصاعدت حدة التوتر مع كوريا الشمالية إلى ذروتها العام الماضي، إذ هددت إدارة ترامب بأن كل الخيارات مطروحة على الطاولة بما فى ذلك الخيارات العسكرية عند التعامل مع بيونج يانج التى تواصل برنامجها للأسلحة فى تحد لعقوبات دولية أكثر صرامة. وهناك احتمال وقوع مواجهة عسكرية غير نووية، فى بداية الأمر، بين روسيا والغرب، ربما فى الشرق الأوسط أو فى أوروبا خاصة فى منطقة البلطيق التى مازالت روسيا تشعر فيها بالاستياء من فقدان لاتفيا واستونيا وليتوانيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. والعقيدة العسكرية الروسية تجيز استخدام الأسلحة النووية الصغيرة فى وقت مبكر فى حال نشوب مواجهة عسكرية كبيرة مع الغرب أو أى عدو آخر. ولذا من الممكن أن تتطور أى مواجهة خطيرة أخرى بين روسيا والغرب، فى أوروبا أو فى الشرق الأوسط، إلى حرب شاملة. وكان يُعتقد أن هذه الأهوال قد طواها التاريخ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. لكن طموح بوتين لاستعادة السطوة والمجد الروسيين، وسوء إدارة الغرب لعلاقاته مع روسيا وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط، كل ذلك ساهم فى احتمال نشوب حرب باردة جديدة قد تكون على نفس الدرجة من الخطورة والعالمية التى كانت للحرب السابقة.
مشاركة :