يعيش العالم اليوم مرحلة ما بعد الحداثة Postmodernism التي بدأت معالمها تتضح بقوة مع انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين 1989. هذه المرحلة التي لم تتّضح كل ملامحها بعد ربما تعتبر واحدة من أعقد حقب التاريخ البشري لأسباب كثيرة. من هذه الأسباب عدم وضوح مفاصل الخصوصية التي تمثل شكل الدول والمجتمعات وعلى ماذا يتعاونون وفيمَ يتنافسون ويتصارعون؟ لقد ظلت محفزّات الدين (المعتقد) والأطماع الاقتصادية والتوسّع والنسب العرقي وقود الصراعات والاتفاقات بين الكيانات البشرية لقرون طويلة. وحينما اخترع الحدّاد الألماني «جوتنبرج» آلة الطباعة منتصف القرن الخامس عشر ظهر وكأنه بذلك قد أعلن نهاية دور الرمز الفكري (الديني) في احتكار المعرفة وتفسيرها ثم تساقطت أدوار النخب الأخرى تباعاً مع شيوع المعرفة والتنوير وظهور رموز فكرية جديدة من أبناء الطبقات الدنيا. ومن هنا انطلقت النخب المستجدة لمرحلة جديدة عُرفت بمرحلة الحداثة Modernism وهي ترفع شعار الحرية ودور العقل وحدود الدين والسلطة مبشرة بعصر جديد في أوروبا والعالم. ولكن مرحلة الحداثة هذه والتي ترعرعت في أوروبا (المتنورة) انتهت بحربين عالميتين مدمرتين وعالم مقسوم وصراعات دينية وعرقية لا تكاد تخبو حتى تظهر من جديد. ومع أن أوروبا (والغرب) عموماً تبنى علمانية (حيادية) الدولة وقدّس حرية الفرد وأمّن قرار المجتمع من خلال الصناديق الانتخابية إلا أن مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 كانت كاشفة لرغبات دفينة في إطلاق مارد القومية (العنصرية) والدين (المعتقد) بشكل واضح وتعزّزت الرغبة لدى جموع غير قليلة في الاختيار السياسي والقرار العسكري والأمني المبنى على نواقض الليبرالية. وهكذا لم تصمد قيم الحداثة كثيراً في الغرب ولعل المحركات الذاتية للفكرة والتي تعتمد على (روح) الدولة وصوت (الجماهير) وعقل (المصلحة) هي ذاتها عوامل إنهاكها. ولعل من عوامل التأثير على القرار والتوجه الغربي أيضاً قوة المتغير الجديد «الرأي العام العالمي» مقابل رأي (سطوة) النخبة وظهور ما يمكن تسميته «الضمير العالمي» نتيجة تشابك الشعوب عبر شبكات المعلومات عبر منظومة قيم إنسانية فوق الدينية والعرقية. وكانت معالم تهافت دور (توازنات) المؤسسات قد بدأت في الولايات المتحدة من خلال انتخاب الأسود «أوباما» عبر (مزاج) «فيس بوك» «واليوتيوب» ثم «تويتر». وأكد ذلك بعده مباشرة فوز نقيضه الرئيس «ترمب» الذي تخطى حدود المألوف في خطابه الانتخابي حين صنعت «تغريدات» العرق والدين والهوية من «ترمب» (مزاجاً) جديداً للشيوخ والشباب في قلعة الرأسمالية والعلمانية رغم أنف شبكات الإعلام الضخمة التي لا تدين بدين سوى الحرية بل والحرية المطلقة. ومن هنا تبدو تحديات الدولة الحديثة وكأنها في عمق مكونات بنائها. ولهذا لم يعد ممكناً تجاهل أسئلة مثل: من يضبط إدارة (شخصية) السكان مكون الدولة الأول في عصر القوة الناعمة والمعلومات الغزيرة الوافدة؟ ومن يقيم نجاح (السلطة) كمكون أهم في بناء الدولة إذا كان مزاج الناس عرضة للتلاعب؟ وماذا يمكن التشبث به من مفهوم (السيادة) المعنوية والمادية للدول على إقليمها وسكانها في ظل قوة المرجعيات العقائدية والرأسمالية العابرة للحدود؟قال ومضى: السكوت من فضة.. يقولها من يقبض ثمن الكلام بالذهب!
مشاركة :