لندن: عدنان حسين أحمد كثيرة هي المشاريع الفنية التي ينغمس فيها الفنان التشكيلي جلال علوان، فقد انطلقت بواكير تجربته الفنية، منذ كان طالبا في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد. ثم تعززت بدماء جديدة، حينما واصل دراسته في الكلية الملكية للفنون بمدينة لاهاي الهولندية، وأقام فيها كثيرا من المعارض الشخصية والمشتركة. وعلى الرغم من الكرم الهولندي المعروف تجاه اللاجئين من مختلف أنحاء العالم، إلا أن جلال علوان لم يشعر بالاستقرار، وربما لم يجد آصرة للارتباط بهذه الأراضي المنخفضة التي تتوسد الضفة الشرقية لبحر الشمال. قرر جلال أن يحسم أمره وييمم وجهه شطر بريطانيا، التي يجد فيها العراقيون بعض ضالتهم الغامضة في الركون إلى هذا البلد، الذي قد يكون ملاذا لغويا، أو لعله ينطوي على بيئة عراقية وعربية مهاجرة «نحنُّ إليها على الرغم من تفادينا لهذا الحنين أو نكراننا له». وأكثر من ذلك، فإن بريطانيا، هي بيئة فنية كوزموبوليتية تستطيع أن تصهر في بوتقتها نتاجات كل الفنانين العالميين المنفيين أو المقتلعين من جذورهم، أو الذين غامروا بالرحيل فوجدوا فيها فردوسا جميلا طالما حلموا بالوصول إليه، كي يتنفسوا هواء الحرية قبل أن ينهمكوا بتأمين هاجس الطعام. من لندن المكتظة بأكثر من 100 جنسية، انطلق جلال علوان بمشاريعه الفنية التي اجترحها من مخيلته المشتعلة، فكانت تنطوي على التشخيص تارة، وعلى الفن المفهومي تارة أخرى، على التلميح حينا وعلى التصريح حينا آخر، تاركا لمشاهده أن يفك الرموز والطلاسم والأحجيات الفنية، إن توفر عليها هذا العمل الفني أو ذاك. وللتعرف على بعض مشاريعه الفنية الكثيرة، كان هذا الحوار مع الفنان جلال علوان. * غرفة الانتظار * كيف انبثق في ذهنك «مشروع غرفة الانتظار»؟ وهل أن الحلم أو الخيال المتشظي هو الوسيلة الوحيدة للتحايل على الواقع المزري في العراق الجديد كما يسمونه؟ - في زيارتي الأخيرة إلى العراق، في الماضي، قمت ببعض المعاملات الرسمية، وكان الانتظار السمة البارزة في حياة الناس وخصوصا في الدوائر الرسمية، ربما لأن مفهوم الوقت وحساباته لم يعد يمثل هاجسا لهم، فالضياع والخسارات أصبحت قرينة لوطن ينهشه الغياب. والوقت والأمان، والثروات، والخبز، والكهرباء، والإحساس بالآدمية، والحرية الفردية، والانتظار، كلها عناصر نهشتها فوضى اللامعقول وعدم المسؤولية. لذلك جاء عملي «غرفة الانتظار» بعد مراجعتي لوزارة الخارجية العراقية لتصديق وثائق لي، حيث تطلب الأمر مني أن أنتظر 7 ساعات في صالة غير مهيأة لاستيعاب 400 مواطن كانوا موجودين في ذلك الصباح. فهي غير مكيفة، ومعدومة التهوية، ومقاعدها الخمسون نصفها عاطل لا يمكن الجلوس عليه، ولا يجوز مغادرة المبنى حتى اكتمال المعاملات. كان الوضع بائسا ومتعبا للجميع، وبالكاد يستطيع الإنسان الاتكاء على الحائط. في تلك اللحظات التعيسة وأنا الغارق في حزني على ما آلت إليه الأمور، ولدت فكرة غرفة الانتظار. تخيلت المكان مليئا بالأراجيح، وتخيلت سعادة الناس وهي تتأرجح في فضاء رحب منتظرة معاملاتها التي ستنجز كالحلم، وفي وقت لا يزيد عن 7 دقائق. لقد قررت أن أنتصر على هذا الشعور القاتل بالتحايل، فأستبدل الصورة اللعينة للانتظار في ذهني، على الأقل، بصورة الأراجيح التي طالما أدخلت السرور إلى قلبي حينما كنت طفلا صغيرا. * الطاقة التعبيرية * ما الطاقة التعبيرية الكامنة في الأثاث؟ وما نوع الذكريات الفردية والأسرية التي تكتنفها؟ وكيف توقف بناء ذاكرتك العاطفية من جهة، والوجودية من جهة أخرى ضمن حدود بيئتك المنتهكة، وحريتك الشخصية المصادرة؟ - كانت هنالك محطات في حياتي أرغمتني على تبديل أثاث منزلي لمرات كثيرة. في بداية العشرينات من عمري، اعتقلت مع أخي الوحيد في العراق في (معتقل أمن بغداد)، حيث أتلف رجال الأمن وسرقوا الكثير من أثاث منزلنا، وضاع معه كثير من الذكريات الشخصية والعائلية، وتوقف في أثنائها بناء الذاكرة العاطفية التي كانت تربطني بمفردات بيئتي. ثم تركت العراق إلى عمان ومنها إلى هولندا، الدولة التي منحتني الجنسية، ولكنها لم تمنحني الاستقرار، على الرغم من المدة الطويلة التي قضيتها هناك. ثم محطتي الأخيرة لندن. الانتقال المتكرر أربك عندي أحاسيس الحنين، الامتلاك والانتماء، ولمجرد أن يبدأ الشعور بالامتلاك أجد نفسي مرغما على أن أهجر ممتلكاتي مرة تلو الأخرى، وأشعر وكأنني يتيم البيئة أو غريب عنها. لذلك وجدت نفسي متأرجحا بين الواقع بكل تعثراته والخيال بكل تأملاته. الواقع المتمثل بمفهوم الاستغناء والرحيل والفناء، والحلم المتمثل بمفهوم الخلود والتعلق، والتشبث والاستقرار. كان لا بد من إيجاد حل لتخطي هذا الشعور المربك، باستبدال هذه العلاقة المليئة بالقطيعة والهجران، والتخلي عن عالم أكثر سحرا وواقعية واستقرارا، حتى ولو كان واقعا افتراضيا، أي بمعنى آخر، أريد خلق علاقة بين الواقع والمتوقع من خلال الاحتفاظ بما يمكن الاحتفاظ به من مفردات البيئة، بعد تحويلها من مشاهد تقليدية نمطية إلى مشاهد إبداعية أخرى، لأنني أريد أن أتعرف من جديد، على العالم المحيط بي. إنني أقوم بتفكيك صورة (مفردات البيئة التي من حولي) ومفهومها في ذهني وإعادة تركيبها إلى مفهوم تعبيري رمزي لخلق حوار بين المادة والوعي للتعرف من جديد على ممتلكاتي. وتلك المفردات لها مفاهيم محددة أود أن أحول تراكيبها إلى كائنات أكثر حيوية، ذات قدرة تواصلية يمكن أن تثير الأحاسيس والخيال، وتحرك الإدراك لوجود فيزيائي جديد ذي شحنة شعرية ساحرة. إنها عملية تغيير في الهوية تتخطى عامل الزمان والمكان، عندما يصبح عملا إبداعيا يسمح لي وللمتلقي بالهروب من الواقع الروتيني اليومي التام من ناحية، ويصبح للحاجات وجود آخر في ذاكرتي من ناحية أخرى. * هاجس الحوار * تشتغل على فكرة المشروع المتعدد الثيمات الذي يستجيب لمفاهيمك الفكرية وخطابك الجمالي، ومشروع الحوار هو أحد هذه المشاريع التي انهمكت بها لمدة زمنية طويلة بعض الشيء. هل تريد أن تروج لمفاهيمك أم لرؤيتك البصرية الجمالية؟ - المشروع عبارة عن محاولة تحليلية بصرية، أردت من خلالها تصوير موقف الحوار (من قِبلي أنا ومن قِبَل الآخر)، وإلى أي مدى نحن أحرار بما نفكر ونقرر؟ وهل أن كل ما يطرح في الحوار هو كل شيء؟ وكيف نتبنى المواقف؟ وهل هنالك تبنيات مخفية أو معلنة؟ أم أن هنالك خلف مشهد الحوار مصالح أو خلفيات (تاريخية، دينية، عرقية، بيئية، عشائرية، طائفية أو أخلاقية) نحن مكبلون بها، وهي تحدد طبيعة الحوار ونوعيته، ومستواه واتجاهه؟ وما مصداقية الفكرة التي تقول: (عندما نتغير يتغير العالم من حولنا)، أو (كيف ما تكونوا يولى عليكم)! في «مشروع الحوار» وضعت الرؤوس على وفق الترتيب الآتي: «الأبوان والبيئة والتعليم والعمل والتجربة والعوامل الطبيعية والزمن، كلها عوامل تكون الشخصية، وهي بالنتيجة مَن يقود الحوار. أما مصادر المعلومات، فهي متنوعة متشابهة ومختلفة ومتقاطعة أحيانا. وأردت للقناعات أن تكون راسخة كالمسامير في الرأس. أما عندما تنحسر مصادر المعرفة، فإننا نرفض الآخر ونتطرف في آرائنا. يكشف إلقاء اللوم على الآخر عن استراتيجية العاجز، إذ إن موقع المتفرج هو أكثر أمنا من موقع المبادرين. أما إظهار عيوب الآخرين وإسقاط المبادرين فهو يغطي فشلنا؟ يقول علي ابن أبي طالب: ما جادلتُ جاهلاً إلا وغلبني، إذ لا يصبح للحكمة قيمة أمام الجاهل العنيد. لابد من الوقوف عند مادة الصنع فهي من الراكو (وهو خزف بطريقة يابانية قديمة خاصة طورها الأوروبيون)، والقطع المعدنية كالحديد والرصاص، إضافة إلى المطاط. أما الفيغر المنفذ هو بحجم الرجل الاعتيادي، وقد اخترت ملامحه بحيث يمكن أن نجدها في كل أعراق البشر، كما بالغت في طول الرقبة للدلالة على غرور الإنسان الذي يفخر بنفسه، حتى وإن لم يستحق ذلك. وقد قمت بتثبيت قطع البورتريهات على قواعد خشبية.
مشاركة :