يقول ربُنا سبحانه وتعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (آل عمران آية 185). ويقول الشاعر: إنما الموت منتهى كل حي لم يُصب مالك من الملك خُلدا سنة الله في العباد وأمر ناطق عن بقائه لن يُردّا في لحظات عصيبة تحفّها رحمة الله سبحانه وتعالى ونحن ننتظر الفرج من رب العالمين بأن تقر أعيننا بشفاء والدنا الحنون الشيخ منصور بن حمد المالك. وفي نشوة هذا الأمل يصعقنا صباح يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر جمادى الأولى من هذا العام 1439هـ بخبر وفاته رحمه الله. وقد اهتزت لهوله مدينة الرياض وجاوبتها محافظة الرس وبقية مدن وقرى المملكة وبكاه كل من يعرفه من قريب وبعيد وكبير وصغير وذكر وأنثى وغني وفقير. وأود أن أتحدث قليلا عن حياة والدنا الشيخ منصور المالك. هو الشيخ منصور بن حمد بن منصور بن دخيل بن حمد بن مالك بن حمد بن رسيس بن حمود الملقب (الجعيب) من المقاحمة من الزبنة من العمارات من عنزة. أما أسرة الرسيس فقد ورد في كتاب (قبيلة عنزة) للأستاذ رضا ناصر حسين ما يلي: (آل رسيس) من قبيلة عنزة، تسكن الخبراء وهي من قرى بريدة بمنطقة القصيم. وهي حاليا من محافظات القصيم. ثم قال: وقيل المالك من الرسيس من المقاحمة من الدهامشة من العمارات... تسكن الرس. وذكر الأستاذ فهد الرشيد في كتابه (الرس بين ماضيها وحاضرها) بأن أسرة الرسيس يعود أصلها إلى الدهامشة وكانت تسكن بلدة الخبراء في القصيم، ومن الرسيس أسرة المالك المشهورة في الرس التي تنسب إلى جدهم مالك بن حمد بن رسيس. وأقول: أسرة المالك أسرة كريمة ومشهورة في المملكة برز منها مجموعة من الأفراد كانوا وجهاء مشهورين بين الناس في الرس وغيرها مثل: حمد بن مالك أحد أعيان الرس الثلاثة الذين أخذهم عبد الله بن سعود معه إبان غزو إبراهيم باشا ليطمئن على ولاء أهل الرس معه. ويقول فيهم الشاعر: بت القوى وأنا عميل الثلاثة الغفيلي وابن مالك وحسّون ومنهم: دخيل بن حمد بن مالك وابنه منصور بن دخيل وابنه حمد بن منصور المالك (والد المترجم له) وهو رجل الرس والوجيه المشهور فيها وجاهة فريدة لا يرقى إليها غيره في وقته. وكان السند بعد الله لكل أهل الرس يرعى شؤونهم ويعطف عليهم وتصل لهم الأرزاق باسمه كما كان يسعى لما فيه مصلحة البلدة ورقيها وتطورها. يحتاجه الأمير والفقير وغيرهم. وكان له دور كبير في إصلاح ذات البين بين الناس عامة والأسر خاصة، وكان يدفع الأموال من حسابه لرعاية أهل الرس، كما كان يشفع لهم في كل المناسبات الخاصة والعامة. أما أبناؤه فقد كسبوا من والدهم تلك الصفة الفريدة فكانوا وجهاء مثله عند الجميع. أما الشيخ منصور فقد ولد في الرس عام 1350هـ وعاش في كنف والده مع إخوته وأبناء عمه. وكان لدى والده بُعد نظر لأهمية العلم وأهله فقد خصص له معلما يعلمه القرآن الكريم هو الشيخ محمد بن عبد الرحمن البطي الذي كان معلما للكتاتيب بالرس ثم ختم بين يديه القرآن الكريم كاملا وعمره تسع سنوات. ثم استمر الشيخ منصور يقرأ القرآن ويتعلم القراءة والكتابة والحساب في مدرسة الكتاتيب الواقعة بجوار بيت والده حيث قرأ فيها على كل من الشيخ ناصر بن سالم الضويان والشيخ محمد بن إبراهيم الخربوش والشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن البطي. بعد ذلك وفي عام 1361هـ أرسله والده يرحمه الله إلى خاله سعد بن عبد الله الطاسان في الرياض والخرج فتعلم المزيد من القراءة والكتابة والحساب وغيرها من العلوم الأخرى. وفي عام 1363هـ سعى والده حمد يرحمه الله لافتتاح أول مدرسة ابتدائية في الرس وهي (المدرسة السعودية) وتم افتتاحها في هذا العام عاد الشيخ منصور من الرياض بحصيلة علمية جيدة فالتحق بالمدرسة الجديدة في الرس مع بعض إخوته فكان في طليعة طلابها حرصا على طلب العلم الشرعي وتخرج من الدفعة الأولى منها عام 1367هـ. كما استمر الشيخ منصور في طلب العلم على مجموعة من علماء بلدته مثل: الشيخ محمد بن عبد العزيز الرشيد والشيخ صالح بن إبراهيم الطاسان والشيخ محمد بن صالح الخزيّم والشيخ صالح بن عبد الله الجارد. حيث قرأ عليهم الفقه والتوحيد والتفسير واللغة العربية. انتقل الشيخ منصور بعد حصوله على الشهادة الابتدائية إلى الرياض ليستزيد من طلب العلم فواصل التعليم على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وفضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ حيث قرأ عليهم الفقه والتوحيد والتفسير والفرائض واللغة العربية. وفي عام 1372هـ واصل الشيخ منصور دراسته في المعهد العلمي في الرياض وحصل منه على الشهادة الثانوية في عام 1375هـ ثم واصل الدراسة في كلية العلوم الشرعية فحصل على الشهادة العلمية العالية منها عام 1379هـ. أما صفات الشيخ منصور المالك: فهو يتميز بالذكاء حتى أنه فاق زملائه في المدرسة الابتدائية، وسرعة البديهة وحسن التصرف في الأمور. وكان فصيحا في إلقاء الكلمات والخطب حيث كان عضوا في النادي الثقافي الذي يقيمه المعهد العلمي في الرياض في كل أسبوع، وكان متفوقا فيه وتعلم منه الفصاحة والجرأة في الحديث. كما أن من صفاته الكرم والمروءة والحرص على صلة الأرحام فكان بارا بوالديه وإخوانه وأخواته وأقاربه يزورهم ويعطف عليهم ويسد حاجاتهم. كما أنه يمد يد العون للمحتاجين والشفاعة لمن يحتاج لها لدى الحكام والأمراء. أما الأعمال التي مارسها الشيخ منصور فهي: 1 - في عام 1368هـ أي بعد حصوله على الشهادة الابتدائية من الرس عمل معلما في المدرسة الأهلية في الرياض، ثم معلما في المدرسة الفيصلية في الرياض لمدة تقرب من أربع سنوات. 2 - وفي عام 1372هـ ترك التدريس والتحق بالمعهد العلمي في الرياض ليواصل الدراسة وقبل تخرجه من كلية الشريعة بعام واحد تم تكليفه بالتدريس في المعهد العلمي في المجمعة حيث كانت المعاهد تحتاج لمعلمين في ذلك الوقت ومكث فيه قرابة عام واحد ثم انتقل للتدريس في معهد الرياض العلمي بعد تخرجه من كلية الشريعة عام 1379هـ. 3 - في عام 1381هـ انتقل للعمل في ديوان المظالم وعيّن فيه محققا شرعيا ثم واصل الترقية في الوظائف الشرعية: رئيسا لمحكمة (ب) ثم رئيسا لمحكمة (أ) حتى وصل وهو في الديوان إلى أعلى درجات السلم القضائي وهي درجة رئيس هيئة تمييز. 4 - في عام 1396هـ تم تعيينه نائبا لرئيس ديوان المظالم، ثم رئيسا لديوان المظالم بالإنابة. 5 - أثناء عمل الشيخ منصور في ديوان المظالم كان يرأس مجموعة من اللجان مثل: هيئة تدقيق القضايا وهي أعلى هيئة قضائية في الديوان، ويرأس هيئة التدقيق مجتمعة في الديوان، ويرأس لجنة الشؤون الإدارية وهي أعلى لجنة في الديوان لاختصاصها بشؤون أعضاء الديوان. كما شارك الشيخ منصور في عدد من المؤتمرات الإسلامية التي تم عقدها داخل المملكة مثل: مؤتمر مكافحة المخدرات ومؤتمر مكافحة الجريمة وغيرها، كما شارك في عدد من اللجان في داخل المملكة. وقام الشيخ منصور بتأليف مجموعة من البحوث والرسائل العلمية وألقى بعض المحاضرات في مناسبات عدة منها: مذكرات في (الفصل في المظالم في المملكة العربية السعودية). وهي عبارة عن بحث أعده بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة وألقاه يوم الثلاثاء: 9-10-1419هـ وطُبع عام 1420هـ في (88) صفحة من القطع الكبير يقول في مقدمته ما يلي (وقد اخترت أن يكون عنوانه الفصل في المظالم في المملكة العربية السعودية لأهمية هذا الموضوع وعناية المملكة به ورعايتها له فالمملكة منذ تأسيسها في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله رحمة واسعة قد اهتمت بهذا الأمر، وحرصت كل الحرص على رفع الظلم عن الناس وبسط العدالة فيما بينهم اتباعا لنهج نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين من بعده) وقد تضمن البحث عدة موضوعات منها: موقف الشريعة من الظلم، الفصل في المظالم في صدر الإسلام ومجالاته، والفرق بينه وبين القضاء العام والحسبة، صفة قاضي المظالم، ثم الفصل في المظالم في المملكة واهتمام الملك وأبنائه بذلك، إنشاء ديوان المظالم واختصاصاته وأعضائه، وغيرها من الموضوعات. كذلك كتب الشيخ بحثا بعنوان (الوقت وأهميته) في مذكرات ألقاها في منزل الشيخ سعود المريبض الذي دعاه لمناسبة تكريمه، وقد تناول الشيخ في البحث ما يلي: معنى الوقت وأقسامه وقيمته وحفظه وتنظيمه وحصة الإنسان منه، وقيمة الوقت عند السلف وعند الطلاب والمنتسبين للعلم، ثم عن نِعَم الله على بلادنا في الاستفادة من الوقت. وللشيخ منصور بن حمد المالك رحمه الله مجموعة من التلاميذ الذين درسوا بين يديه في معهدي المجمعة والرياض وتخرج منهم عدد كبير تولوا مناصب عليا في الدولة منهم: معالي الدكتور الشيخ عبد الله التركي رئيس رابطة العالم الإسلامي سابقا، ومعالي الدكتور محمد بن أحمد الرشيد وزير المعارف سابقا، وفضيلة الشيخ محمد الدريعي المدرس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وغيرهم كثير. والشيخ منصور كان يلقي دروسا عامة على مجموعة من الطلاب في العلوم الشرعية مثل الفقه والتوحيد والتفسير. كما كان يلقي دروسا على المصلين في مسجده بين الأذان والإقامة في صلاة العشاء. وبعد صلاة الفجر. وبقي الشيخ منصور بعد تقاعده من ديوان المظالم يعيش في مدينة الرياض بين أبنائه وإخوانه وأقاربه وأصحابه ومحبيه، حيث يحظى بعلاقات طيبة وتقدير واحترام من الجميع. حتى انتقل إلى رحمة الله يوم الاثنين: 24-6-1439هـ رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الجنة مع الأبرار.
مشاركة :