من المواضيع التي أثارت الجدل بين علماء اللغة العربية في مطلع القرن الماضي، تلك التي دارت حول أيّ الأسلوبين أدلّ على التواضع وعدم الاعتداد بالنّفس: أن تقول، عندما تتحدّث عن نفسك، أنا أرى كذا، وأنا أحبُّ كذا، أم نحن نرى كذا، ونحن نُحبّ كذا… فريق كان يعتقد أن استعمال المتكلّم لضمير الجمع “نحن” للتعبيرِ عن نفسه، فيه ادّعاءٌ وغُرورٌ وتفخيم للنفس. وفريق آخر يرى العكس، ويعتبر أنّ استعمال المتكلّم لضمير الجمع دليل على تواضعه، وأنّ استعماله لضمير المفرد هو الذي يوحي بالأنانية وفرض الذات. الفريق الأول يعتبر الحديث بضمير الجمع تنصلا من المسؤولية، وإشراكا لغيره في عمل قد يكون قام به وحده، أو فكرة لا يؤمن بها سواه. أما الفريق الثاني فيستدلّ على رأيه بما جرت عليه أساليب التخاطب والتعامل في الحياة اليومية، إذ يستحسن الناس أن يقول المرء: زرنا في مدينتنا، أو بيتنا، أو مدرستنا…، عوض أن يقول: زرني في مدينتي، أو بيتي، أو مدرستي. وفي نظر أصحاب هذا الرأي أنّ استعمال المتكلّم لضمير الجمع بدل ضمير المفرد يوحي بالتعاطف مع المخاطب أو المستمع تخفيفًا لفجاجة التّكلّم عن النفس. فالخطيب، أديبًا كان أم واعِظًا أم سياسيا، عندما يتحدّث إلى الناس بقوله: “نحنُ نرى كذا”، فإنّما يضيف إلى التواضع رغبةَ إشراك السامعين في رأيه، عوض أن يفرضه عليهم. ولئن كنا ننظر إلى المسألة من زاوية قيمية أخلاقية، فإن الغرب يتعامل معها من منظور علمي، حيث تبدو الـ”نحن” في نظر الأغلبية أقرب إلى الموضوعية، تلك الموضوعية التي يذكّر المؤرخ إيفان يابلونكا بأنها تدرَك على المستوى العلمي بالجدل النقدي لا محالة، ولكنها تدرك أيضا على المستوى الفردي بالتحليل الشفاف الذي يجريه الباحث على عمله، فالاختبار الذاتي هو أمر ضروري في كل الأحوال، عملا بنصيحة بيير بورديو بـ”أن يكون لكل باحث وجهة نظر حول وجهة نظره نفسها”، ولكن دون أن يلغي تماما استعمال الـ”أنا”، بل يتوسل بها حينما يقتضي المقام ذلك، أو حين يكون قادرا على تحمل عثرات مسعاه ونتائج بحثه، كما هي الحال في الأنثروبولوجيا الاجتماعية. وليس اعتباطا أن ليفي ستروس في كتابه “مداريات حزينة” مثلا، كان غالبا ما يلجأ إلى ضمير المتكلم المفرد للحديث عن تجربته الخاصة ومنطلقاته وشكوكه وعثراته، ليبين للقارئ بوضوح كيف بنى تصوره وتدبّره؛ وفي ذلك نوع من الأمانة العلمية، بعيد كل البعد عن الادعاء الفجّ واستعراض العضلات.
مشاركة :