"السيرك" بين ثقافة البهجة والإلهامات الثقافية في الشرق والغرب

  • 4/24/2018
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

بقدر ما يشكل الاهتمام الواضح في الآونة الأخيرة بفنون وعروض السيرك في مصر وإعادة تشغيل المقار التي أغلقت طويلا دعما لثقافة البهجة وتعزيز العدالة الثقافية على امتداد ارض الكنانة فإن "عالم السيرك" يشكل أيضا مصدر الهامات ثقافية سواء في الشرق أو الغرب. والسيرك ملهم لشعراء كبار في العالم مثل الشاعر الأمريكي الراحل كينيث كوخ وهو صاحب قصيدة عن السيرك أبدعها أثناء زيارة لباريس وكذلك مواطنته الشاعرة الراحلة وكاتبة القصة القصيرة اليزابيث بيشوب التي قضت عام 1979 وهي صاحبة قصيدة بديعة عن "الشمس الأفريقية ورمال السيرك الحزينة واسود رملية تتحلق بحزن حول نافورة رومانية قديمة مخضبة بالدماء في وسط السيرك". وفي احتفالية مصرية أقيمت مؤخرا بحضور وزيرة الثقافة الدكتورة ايناس عبد الدايم بمناسبة إعادة تشغيل مقر السيرك القومي في مدينة 15 مايو قدم "مروض الوحوش" مدحت كوتة فقرات عرض مع مجموعة من الأسود والنمور أبهرت الحضور. ومن الأسماء الكبيرة التي عملت في السيرك يبرز اسم الفنان الراحل يوسف وهبي حيث عمل هذا الرائد المسرحي والسينمائي المصري والملقب بعميد المسرح العربي" في بداية مسيرته الفنية "كمصارع في سيرك" حسبما تقول سيرته الذاتية. أما موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب فلم تطل إقامته وهو صبي عن أيام معدودة داخل سيرك بعد أن أصر على الغناء فحسب بينما أصر أصحاب السيرك في المقابل على أن يقوم أيضا "بدور البلياتشو". والسيرك ملهم للفن السابع او السينما بل ان فيلما مصريا عرض في عام 1968 كان عنوانه "السيرك" اخرجه عاطف سالم عن قصة من تأليف صلاح حافظ فيما ضم طاقم الممثلين هدى سلطان وحسن يوسف ونبيلة عبيد وسميرة احمد ومحمد عوض وهو يدور حول إحدى فرق السيرك الجوالة في القرى المصرية ومحاولات تطوير الفرقة. ومن بين الهامات السيرك وانعكاسات هذا الفن على السينما المصرية ظهر أيضا فيلم "فتاة السيرك" في عام 1951 وهو من إخراج حسين فوزي بطولة النجمة الاستعراضية نعيمة عاكف. وقبل ذلك بسنوات طويلة ذاع صيت الفيلم الأمريكي "السيرك" الذي ظهر عام 1928 واخرجه وكتبه وقام ببطولته الفنان العظيم شارلي شابلن فيما استحق هذا الفيلم الجائزة الخاصة للأوسكار عام 1929. والسيرك أيضا ملهم لوحات دخلت في روائع فنانين كبار مثل الفنان الأسباني الشهير بابلو بيكاسو وأحيانا تقام معارض فنية بأكملها في الغرب للوحات مستلهمة من فنون السيرك مثل معارض أقيمت ومازالت تقام في الألفية الثالثة للفنان الألماني الراحل ماكس بيكمان رغم انه قضى منذ عام 1950 وتجذب اعدادا كبيرة من الزائرين لمحافل ثقافية كمركز بومبيدو في باريس ومتحف تيت مودرن في لندن. وكان هذا الفنان الألماني الكبير مولعا بعروض السيرك والملابس الملونة والأقنعة الساحرة للذين يقدمون هذه العروض في أجواء حميمة وساحرة لجماهير تتطلع للبهجة البريئة في ازمنة لم تخل في أي وقت من عنف وحروب وازهاق للأرواح البريئة. وافتتح السيرك القومي في مصر رسميا عام 1966حيث يقع مقره الرئيس بمنطقة "العجوزة" في القاهرة وقبل ذلك كان وزير الثقافة حينئذ الدكتور ثروت عكاشة قد أسس مدرسة السيرك عام 1962 واستقدم خبراء سوفييت في فنون وألعاب السيرك للاستفادة من خبراتهم المميزة عالميا بينما يعد مقر السيرك القومي في مدينة 15 مايو والذي أقيم على مساحة تتجاوز العشرة آلاف متر مربع لاستقبال نحو 1500 مشاهد ثمرة من ثمار التوسع في ثقافة البهجة وفنون السيرك. ولئن بات السيرك القومي رائدا على مستوى العالم العربي وأفريقيا فإن هذا الإنجاز يدخل ضمن السجل المضيء لإنجازات الراحل الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة الأشهر فى ستينيات القرن العشرين والذي حقق نهضة ثقافية وكان صاحب الإنجازات المقدرة فى البنية الأساسية للثقافة المصرية أو ما يوصف "بالصناعات الثقافية الثقيلة" من قصور للثقافة ومسارح ومتاحف وسلاسل دورية للكتب الهامة والمعاجم ودوائر المعارف فضلا عن عروض الصوت والضوء ناهيك عن إنقاذ آثار النوبة عند بناء السد العالى وإقامة العديد من فرق الفنون الشعبية. وإعادة تشغيل مقر السيرك القومي في مدينة 15 مايو بعد توقف استمر نحو 15 عاما مع الاتجاه لافتتاح مقار أخرى للسيرك بمحافظات مصرية متعددة يعكس اهتماما واضحا بالعدالة الثقافية ونشر المراكز الثقافية والفنية على امتداد ارض الكنانة. ووسط حشد جماهيري كانت وزيرة الثقافة ايناس عبد الدايم قد شهدت مؤخرا احتفالية بمناسبة إعادة تشغيل السيرك القومي بمدينة 15 مايو والتي تشكل خطوة جديدة لفتح نوافذ ثقافية وفنية جديدة منوهة بإمكانية فتح مقار أخرى تابعة للسيرك القومي في بعض المحافظات المصرية. وأشارت الدكتورة ايناس عبد الدايم الى تحويل مقر السيرك القومي بمدينة 15 مايو الى مركز للثقافة والفنون يضم مسرحا ومدرسة لتعليم الموهوبين فنون السيرك فضلا عن اتجاه لتطوير فنون وألعاب السيرك عبر ابتعاث الموهوبين في دورات وبعثات خارجية لتأسيس جيل جديد قادر على المنافسة العالمية في هذا المجال الفني. وفي هذه الاحتفالية التي حضرها رئيس قطاع البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية الدكتور عادل عبده أكدت وزيرة الثقافة أن الفنون بألوانها المتنوعة تشكل قوة مصرية ناعمة وقادرة على مواجهة الأفكار الظلامية للإرهاب. وفي سياق إعادة تشغيل سيرك 15 مايو بعد سنوات طويلة تعرض فيها للإهمال حتى باتت "حالته سيئة جدا"قال الدكتور عادل عبده إن العمل يجري في المواقع التابعة لقطاع البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية لإعادة تشغيلها من جديد. وفي شهر رمضان المقبل سيستخدم مقر هذا السيرك في مدينة 15 مايو لإقامة حفلات لفرقة الإنشاد الديني فضلا عن فرقة الموسيقى العربية حسبما أوضح عادل عبده الذي وصف هذا الموقع "بالصرح الثقافي الفني". وتتزامن الانطلاقة الجديدة للسيرك القومي مع حدث ثقافي آخر يعزز "ثقافة البهجة" آلا وهو انطلاق فعاليات الدورة السادسة للمهرجان الدولي للطبول والفنون التراثية فيما حضر نحو خمسة آلاف مشاهد وقائع افتتاح هذا المهرجان بمسرح بئر يوسف في قلعة صلاح الدين والذي يستمر بمشاركة فنانين من 22 دولة حتى السادس والعشرين من شهر ابريل الجاري" تحت شعار "حوار الطبول من اجل السلام". وإذ تمتد عروض المهرجان الدولي للطبول والفنون التراثية لأماكن ثقافية وسياحية قاهرية كشارع المعز وقبة الغوري وحديقة الحرية بالجزيرة لقت رئيس المهرجان الفنان انتصار عبد الفتاح الى مغزى مشاركة عدد كبير من الفرق العالمية بفنونها المختلفة في هذا المهرجان الدولي الذي يحمل رسالة سلام من ارض الكنانة للعالم . وفي السيرك القومي بمنطقة العجوزة يسهل رصد مشاعر البهجة بين الزائرين وخاصة الأطفال وتجاوبهم بالتصفيق لفناني السيرك فيما تحمل ذاكرة المكان أسماء مصرية أبدعت في فنون السيرك مثل الفنانة الراحلة محاسن الحلو و"الرجل الكاوتشوك المبهر محمد رماح" ناهيك عن الراحل عبد الفتاح شفشق الذي قضى في نهاية عام 2006 وهو مؤسس السيرك القومي وصاحب الدراسات الثقافية عن تاريخ السيرك في العالم. وكانت الدكتورة ايناس عبد الدايم قد اكدت على اعتزام وزارة الثقافة وضع حلول نهائية لجميع المشاكل والعقبات التي تواجه السيرك القومي وفنانيه فيما تظهر العروض التي قدمت في احتفالية إعادة تشغيل مقر السيرك بمدينة 15 مايو توهج قدرات مصريين موهوبين في فنون السيرك ومدى رشاقتهم ولياقتهم البدنية المرتفعة. ونالت عروض في هذه الاحتفالية مثل "السلم الهوائي" و "الطوق الهوائي للفنانة رحمة" و"ثنائي التشكيلات صبري ويسري" الاعجاب والتصفيق المدوي لجمهور الحضور وبما يعيد للأذهان عروض مبهرة للسيرك القومي في العجوزة مثل اللاعب الذي يمشي معصوب العينين على سلك أو زميله الذي يقف طوال فقرة كاملة على كرة مطاطية. كما تستمر "عائلة الحلو" في إثراء فنون السيرك وترويض الخيول والأسود والنمور بأسماء مثل " لوبا الحلو التي تحرك حيواناتها بالصوت والإيماءة ونظرة العين لتجعل النمر يحتضن الأسد" فيما يبقى اسم جدها مدرب الأسود محمد علي الحلو حاضرا دوما في ذاكرة عالم السيرك وهو الذي قضى في منتصف ثمانينيات القرن الماضي عندما انقض عليه "الأسد سلطان" غير أن هذا الأسد مات حزنا وندما واضرب عن الطعام عقب رحيل مدربه !. وفي المغرب الشقيق تجربة رائدة لفتت اهتمام وسائل إعلام عالمية فمضت تتحدث عن "المدرسة الوطنية للسيرك" والمعروفة بالاختصار "شمسي" في مدينة سلا والتي تستقبل أطفالا يعانون من أوضاع اجتماعية واقتصادية صعبة ضمن ما يعرف "بأطفال الشوارع وهو مصطلح كان عنوان فيلم قدمه الفنان المصري الكبير يوسف وهبي عام 1951" لكنهم وجدوا الرعاية والتأهيل في هذه المدرسة وأبدع الكثير منهم في "فنون السيرك". ومن نافلة القول أن بعض "العروض البهلوانية في السيرك" تنطوي على خطورة بالغة وتتسبب أحيانا في حوادث مأساوية لأصحاب هذه العروض وبعضهم من المشاهير في عالم السيرك مثل الفرنسي يان اردود الذي انخرط ضمن فريق "سيرك دو سوليه" على مدى اكثر من 15 عاما غير انه لقى حتفه بعد حادث مؤسف في شهر مارس الماضي في"تامبا باي بولاية فلوريدا الأمريكية". وفيما سقط يان اردود من حالق وهو يؤدي حركات بهلوانية على حبال معلقة فقد قضى نجل مؤسس "سيرك دو سوليه" في نهاية عام 2016 على اثر اصطدامه برافعة تلسكوبية ثناء التجهيز لأحد عروض هذا السيرك الكندي الشهير وقضت لاعبة في السيرك ذاته عام 2013 بعد سقوطها خلال عرض بهلواني في لاس فيجاس. ومن الحوادث المحزنة أيضا حادث مقتل مدرب الأسود المصري اسلام شاهين في أواخر شهر نوفمبر عام 2016 في احد العروض بالأسكندرية بعد ان تعرض لهجوم أسد وثلاثة نمور. فألعاب السيرك تعني في جوهرها تحدي الخطر بصورة تكشف عن القدرات الإنسانية الفذة من أجل نفحات سعادة وعالم من البهجة للصغار والكبار..ومن الذي ينكر الإعجاب بفنانين توحدوا مع الخطر من أجل إسعاد الآخرين ؟!.

مشاركة :