إن مسألة فهم المستقبل وطبيعته أمر قديم قدم الإنسان ذاته، فهذا الشوق والتطلع للمستقبل لازم الإنسان عبر الدهور وتجسد لديه بأشكال وآمال مختلفة، وعبر التاريخ، ولقد حاول علماء ومفكرون استشراف المستقبل من خلال طرح بعض الرؤى والتصورات المستقبلية المبنية على اعتبارات منطقية واستنتاجات تحليلية تولدت لديهم، نذكر منها على سبيل المثال، رؤية الجمهورية الفاضلة التي ذكرها أفلاطون في جمهوريته، والفارابي في مدينته الفاضلة. ومالتوس في نظريته المتشائمة لمستقبل البشرية، وأبي بكر بن طفيل في رسالته حي بن يقظان، فخيال هؤلاء العلماء ورغبتهم في استشراف المستقبل ولد هذه الرؤى والتصورات المستقبلية التي جادت بها مخيلتهم (السليطي والصيداوي، 1417 هـ، 2). وانطلاقًا من أهمية الدراسات المستقبلية في حياة الشعوب، فلقد اهتمت المنظمات الدولية بهذه المسألة وأقامت من أجلها العديد من المنتديات واللقاءات الفكرية لبلورة رؤية واضحة للمستقبل وما ينبغي عمله من إجراءات؛ لمواجهته بكل تصوراته وتحدياته، ولعل اليونسكو من أهم المنظمات الدولية التي اهتمت بهذه المسألة، وأهم ما صدر عنها في هذا الشأن، تقرير كل من ادغار فور الموسوم بـ ” تعلم لتكون ” الصادر عام 1972، وتقرير جاك ديلور وزملاؤه الموسوم بـ ” التعلم: الكنز المكنون ” الذي صدر عام 1996. جودة التعليم ونطوره مرآة صادقة للمجتمع: إن من شروط جودة التعليم في أي زمان ومكان أن يكون انعكاسًا لثقافة مجتمعه ومتغيرات عصره، فهو يصنع مستقبل مجتمع بصناعة أفراده؛ ليعيشوا العصر ويعايشوه، يتأثروا به ويؤثروا فيه، كل ذلك في إطار من قيمهم الثقافية؛ لذا فإن تعليم لا يعايش العصر ومتغيراته، هو تعليم فاشل لا يساعد أبنائه على العيش في هذا العصر؛ لأن وجهته الماضي لا الحاضر، وهذا العصر هو عصر علم، وتقنيات، وعصر اتصالات أرضية وفضائية وعقول إلكترونية، وعصر استشعار واتصال عن بُعْدٍ، وعصر تعلُّم وتدريب عن بعد (عبد الجواد، 1985، ص 68 – 69). إن قدر التعليم في أي مجتمع، يحتم عليه السعي بكل دقة وأمانة ومثابرة إلى تحقيق التوازن بين أصالة الماضي، ومتطلبات الحاضر ومتغيراته، واحتمالات المستقبل القريب والبعيد؛ لئلا يقع المجتمع في ماضوية مدقعة، أو تخرجه خارج التاريخ والتقدم الحضاري؛ لذا فإن هذه الموازنة السهلة الممتنعة لأطراف المعادلة، تستلزم من التعليم، إعادة النظر في الرؤى والفلسفات الموجهة لعمله وما يرتبط به من مضامين ومحتويات؛ لتتجاوب وتتناغم مع روح العصر وجوهره ومعطياته، وتطوير مناهجه وأنشطته، وبذلك يتم الجمع بين العطاء والإبداع، والتميز والإنتاج في عصر معولم تشتد فيه روح المنافسة القائمة على التكتل الاقتصادي واقتصاديات المعرفة والمعلوماتية. فنظرة تاريخية فاحصة إلى المشهد التربوي في الدول النامية تبين أن كل الإصلاحات والتغيرات الجذرية المؤمل إصلاحها في صلب التعليم التقليدي، لم تثمر سوى تدابير وإجراءات طفيفة لم تلامس إطلاقا جوهر التعليم وعمقه، رغم أن السياسات الاجتماعية والعلمية والسياسية تفرض المراجعة الجذرية للنظام، لحاجة العصر إلى نموذج إنسان جديد (القباج، 2001، 31)، إنسان يستطيع أن يبدع ويتميز ويتعلم بحرية فائقة في ظل التحولات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية الكبرى للعولمة. لقد حقق التعليم في المملكة العربية السعودية كثيراً من الإنجازات، ولكن تتطلب التحديات العالمية والاحتياجات المحلية العمل الإستراتيجي المنتظم لإكساب طلابنا وطالباتنا المعارف والمهارات والاتجاهات التي تؤهلهم للقرن الحادي والعشرين؛ من خلال رؤية وخطة إستراتيجية مستقبلية طموحة، هي رؤية 2030، وذلك بتبني مشروع تطوير شامل لتطوير التعليم، وذلك من خلال الاستفادة من أفضل الممارسات العالمية المتقدمة بما يفي باحتياجات المملكة العربية السعودية المستقبلية إن الأولوية الإستراتيجية في خطة تطوير التعليم في المملكة العربية السعودية هي رفع مستوى تحصيل المتعلم من خلال التطوير المنتظم للمدارس وتمكينها ومساندتها من قبل جميع مستويات النظام التعليمي. إن منهج استشراف المستقبل هو قائم على استقراء الماضي، وخصوصياته وفهم الحاضر ومعطياته من أجل التنبؤ بما يمكن أن تكون عليه المشاهد المستقبلية للظاهرة المدروسة، وتعتمد الدراسات الاستشرافية على مؤشرات كمية وكيفية ترتبط بالأوضاع السكانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية والثقافية ودراسة العلاقات بينها مما يمكن من بناء فرضيات وتنبؤات للمستقبل (نصار، 1997، 10)، وتمازج منهجية هذه الدراسة بين المقاربات الفنية والسياسة في محاولاتها للتنبؤ بالمستقبل، وتتضمن الأجزاء اللاحقة شروحات وتفصيلات موسعة حول منهجية استشراف العمل التربوي. (البصام، 1997، 237). منهجية صناعة الرؤية المستقبلية: دراسة المستقبل ليست مجرد رياضة عقلية بل هي علم عملي يهدف إلى تيسير عملية صناعة المستقبل، وتجسيد الآمال والأحلام، وتجنب المشكلات والمخاطر والكوارث التي تهدد المجتمعات، بل والإنسانية جمعاء، كما يهدف من جانب إلى مساعدة صانع القرار على تخطيط سياسات رشيدة وتنفيذها، كما تعمل على تحديد غايات تكافح الجماهير من أجل بلوغها، وبلورة آمال تعمل على الوصول إليها، وإن الهدف النهائي لمحاولة استشراف المستقبل هو التمكن من السيطرة عليه وصناعة مستقبل أفضل يعيش فيه الإنسان (نوفل، 1998، 182). تهتم الدراسات الاستشرافية بدراسة الأوضاع والتغييرات السكانية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التعليمية والثقافية بغية تحليلها من خلال مؤشرات كمية وكيفية متعارف عليها تسهل مسألة قياسها وتقويمها، الأمر الذي يمكن بالتالي من دراسة العلاقات المتبادلة بين هذه المتغيرات، مما يمكن من بناء وصياغة مجموعة فرضيات، وتنبؤات، ومشاهد وبدائل لملامح المستقبل في الميدان قيد الدرس، وتعنى دراسات المستقبل بالبحث في بدائله للأجل الطويل، مستهدفة خلق الوعي حول تحديات المستقبل وثمن الاختيار بين البدائل اجتماعيا، ولذلك لعبت دورا غاية في الأهمية، منذ بداية السبعينيات وحتى الآن، في تطوير الفكر النظري والإيديولوجي، وفهم تشابك الحياة ومحدداتها، وفي صياغة الغايات والأهداف. ولا شك أن ما يستشرف من بدائل (سيناريوهات) يمكن أن يتراوح ما بين امتداد ظروف قائمة (انطلاقا من افتراضات بعينها) إلى أخرى غارقة في المثالية أو الخيال. ولكن الواضح من الخبرة التاريخية أهمية تصور كل تلك البدائل وحسابها والمقارنة بينها في خلق الوعي حول الحاضر والإبداع لأجل المستقبل. وكثير من دوافع التغيير وآلياته يتمثل في وقت من الأوقات في خيالات نبنيها في أذهاننا ثم نبدأ العمل نحوها، وتعديلها أو تعديل الواقع ليتناسب مع تلك التصورات (نصار، 1997، 19). وللدراسات الاستشرافية المستقبلية مناهج وأساليب متعددة تطورت خلال العقود الثلاثة الماضية حتى أصبح استشراف المستقبل علما قائما بذاته. هذا العلم يعتمد في أساليبه على منهج الدراسات البينية حيث يستفيد من التطورات المتسارعة في ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية والديموغرافية والبيئية ومعطيات علم الحاسوب والأساليب الإحصائية الكمية والكيفية، إذ أن معطيات هذه العلوم وتوجهاتها ونظرياتها ذات أهمية قصوى للعاملين في ميدان الاستشراف المستقبلي (الصايغ، 1999، 10). ويتضمن المنهج الاستشرافي ثلاثة مراحل أساسية تتداخل فيما بينها، وذلك كما يلي: أولها رصد الاتجاهات والمؤشرات، وتعني هذه المرحلة بعض الاتجاهات الحاضرة والماضية والتي قد توضح لنا بعض الأدلة المستقبلية عن عناصر الظاهرة أو المجال محل الدراسة. وتتسم المرحلة الثانية، مرحلة التوقع المستقبلي، بالانطلاق في رصد هذه المؤشرات وإيجاد العلاقات الثنائية أو المتعددة فيما بينها، وربطها بالمتغيرات والتحديات المحيطة بها إلى الخروج ببعض التوقعات المستقبلية المبنية على الخلفية العلمية والخبرة المتميزة. وتمثل المرحلة الثالثة مرحلة الوصول إلى البدائل المستقبلية غاية الدراسات الاستشرافية حيث ينتهي الأمر بتجميع المؤشرات والتوقعات المستقبلية وتحليلها وفحصها وتمحيصها من أجل الوصول إلى عدد من البدائل أو المشاهد المستقبلية. (الصايغ، 1999، 10 – 12). متطلبات التغير في النظام التعليمي: أول متطلبات هذا التغيير هو مرونة النظام التربوي، مرونة تستجيب إلى حاجات التغيير المستمر، وثانيها الأخذ بالتربية المستمرة، التربية من المهد إلى اللحد، وتحطيم الحواجز بالتالي بين التربية النظامية وبين سواها من أشكال التربية غير النظامية، وثالثها بناء القدرة لدى المتعلم على ” التعلم الذاتي (على تعليم نفسه بنفسه باستمرار) وجعلها محور العملية التربوية وهدفها الأساس، ورابعها ربط التربية بحاجات العمالة المتغيرة والمتجددة وبمطالب التنمية الاقتصادية والاجتماعية بوجه عام، وخامسها تجديد ” تقنيات التربية “والاهتمام بوجه عام بالربط بين التربية وبين التقنيات الإعلامية والمعلوماتية الجديدة، وسادسها ربط التربية بالتراث الثقافي العربي والعالمي، والاهتمام بتجديد التراث العربي من خلال منطلقاته ومن خلال تفاعله مع التراث الثقافي العالمي المتجدد. (عبد الدائم، 1998، 110). إن التغييرات المرجوة في النظام التعليمي السعودي بمستوياته ومراحله، ينبغي أن تتم في ثلاث مستويات أساسية: (مستوى الفلسفة والسياسات)، و(مستوى المضامين)، و(مستوى الهياكل). فعلى مستوى الفلسفة والسياسات، لا مناص للأنظمة التربوية السعودية من الأخذ بفلسفة التربية المستمرة من المهد إلى اللحد وتوفير المرونة اللازمة للمواطنين للتنقل بيسر وسهولة بين الأنماط التعليمية المختلفة، واعتبار تعلم وتعليم الراشدين الكبار نمطا رابعا من التعليم كما هو معمول به في الساحة الدولية. وعلى مستوى المضامين، يتوجب على التربية التحول من الحفظ والتلقين وتكريس ثقافة الاختبارات والثقافة الماضوية النظرية البحتة، إلى تربية نوعية تزود الدارسين بالكفايات الأساسية التي تمكنهم من اكتساب مهارات التعليم الذاتي، والعيش في مجتمع متسارع التغير ومعقد الرؤى، وتمكنهم من مهارات التفكير الناقد والقياس والبحث العلمي، واستخدام الحاسوب وأدوات التحليل الرمزي، وتمكنهم من مهارات الحياة الأساسية والرياضيات والعلوم والعمل بروح الفريق، العلاقات الإنسانية، واللغات الحية، والاعتزاز بالمواطنة والتراث، وتحمل روح المسؤولية. هذه المضامين هي التي تمكن من خلق ثقافة جديدة ترى في التعليم عن بعد خيارا استراتيجيا ونمطا لا مناص من الأخذ به. وعلى مستوى الهياكل والصيغ، فنرى أنه آن الأوان للنظام التربوي في المملكة العربية السعودية لأن يبحث ويمهد السبيل أمام تبني صيغ وبدائل حديثة ومجدية في التعليم النظامي والعالي على غرار ما هو معمول به في الساحة الدولية. وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلى الحديث عن دور القطاع الخاص والأهلي ودورهما في رفد الجهود الرسمية وكذلك أهمية إيلاء عناية خاصة بأنظمة التعليم عن بعد والتعليم المفتوح التي تتلاءم مع الاحتياجات المتزايدة للطلب الاجتماعي على التعليم والتدريب المستمر من قبل أبناء المملكة والمقيمين الأجانب والعرب في الدولة. وفي ظل هذه التحولات، وفي ظل التغيرات المرجوة في المنظومة التربوية السعودية، لا بد الأخذ بمنظومات التعليم عن بُعْدٍ، وإعادة تدريب الموظفين الذين تغيرت طبيعة وظائفهم بسبب التحولات النوعية المتسارعة. ومن الأخطاء التي يقع فيها الكثيرون النظر إلى المستقبل على أنه شيء مطلق ليس له حدود، ومن ثم يحدث أحياناً الخلط بين ما هو محتمل (مرجح على المدى البعيد في المستقبل)، وبين ما هو متوقع الحدوث (مرجح على المدى القريب) كذلك ينظر البعض إلى المستقبل على أنه طريق واحد (حتمية واحدة) ويتجاهل أننا في حقيقة الأمر أمام مستقبلات(احتمالات كثيرة أو قليلة) وطرق متعددة ومتباينة، وما بين المستقبل القريب أو البعيد والاحتمالات أو التخمينات، تتعدد الرؤى وتتباين الاتجاهات (نوفل، 1998، 187). وبناء على ما سبق جاءت رؤية 2030 في الوقت الحاضر؛ لتطوير التعليم في ظل عالم تتسابق فيه بلدان العالم للوصول إلى أعلى درجات التنافسية والتقدم في المجالات جميعها؛ بهدف بناء بلد يضاهي الدول المتقدمة، ومواطن سعودي منتج يسهم في تقدم الحضارة البشرية من خلال إطلاق مشروعات وبرامج تنموية كبيرة في أهدافها وحجمها، تهيئ المملكة العربية السعودية؛ لتكون موطن حضارة ورفاهية ونمو وازدهار، وإن طموح المملكة وفق رؤية 2030، أنها تسعى إلى تطوير العملية التعليمية، وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات أبرزها ما يلي: نتعلم لنعمل: الاهتمام بالاستثمار في التعليم والتدريب وتزويد أبنائنا بالمعارف والمهارات اللازمة لوظائف المستقبل. وسيكون هدفنا تأهيل المدرسين والقيادات التربوية وتدريبهم وتطوير المناهج الدراسية، كما سنعزز جهودنا في مواءمة مخرجات المنظومة التعليمية مع احتياجات سوق العمل، حيث تم إطلاق البوابة الوطنية للعمل “طاقات”، وبهذا سيتم تأسيس مجالس مهنية خاصة بكل قطاع تنموي تعنى بتحديد ما يحتاجه من المهارات والمعارف، وسيتسع مجال التدريب المهني لدفع عجلة التنمية الاقتصادية، مع تركيز فرص الابتعاث على المجالات التي تخدم الاقتصاد الوطني وفي التخصصات النوعيّة في الجامعات العالميّة المرموقة، وسنركز على الابتكار في التقنيات المتطورة وفي ريادة الأعمال. تعليم يسهم في دفع عجلة الاقتصاد: السعي إلى سد الفجوة بين مخرجات التعليم العالي ومتطلبات سوق العمل، وتطوير التعليم العام وتوجيه الطلاب نحو الخيارات الوظيفية والمهنية المناسبة، وإتاحة الفرصة لإعادة تأهيلهم والمرونة في التنقل بين مختلف المسارات التعليمية. وسنهدف إلى أن تصبح خمس جامعات سعودية على الأقل من أفضل (200) جامعة دولية بحلول عام (1452هـ – 2030م). وإعداد مناهج تعليمية متطورة تركز على المهارات الشراكات مع الجهات التي توفر فرص التدريب للخريجين محلياً ودولياً، وننشئ المنصات التي تعنى بالموارد البشرية في القطاعات المختلفة من أجل تعزيز فرص التدريب والتأهيل.
مشاركة :