سيكون من المكرر الحديث عن أزمة الصحافة الورقية وعن معركتها في البقاء التي تخوضها، وسيكون من غير الواقعي اعتبار أن الصحف الإلكترونية هي المسؤولة عن هذه الأزمة لأن هذه الصحف نفسها تعاني الآن من أزمتها الخاصة بها بعد أن تم تقديمها سابقاً على أنها مستقبل الصحافة المنتظر كما سيكون من غير الملائم اعتبار وسائل التواصل بديلاً للصحف بنوعيها فقط لمجرد أنها تأتي بالخبر قبل الآخرين وتتيح مساحة للإعلان. وقبل أن تظهر وسائل جديدة سنفترض بأنها ستلغي الدور الإعلامي لمواقع التواصل، أريد أن نعود إلى الصحافة الورقية ذاتها لنعرف ما هو حجم الواقعية في تصوير الأزمة التي تعانيها، ولماذا يحاول الكثيرون إظهارها بهذه الكارثية دون أن ينتبهوا إلى أنهم بهذه الطريقة يصورون المشهد الإعلامي في صورة العاجز عن التفكير في أي حلول، مقررين كذلك أن الصحف بكل تاريخها أمام مشكلة بقاء يجب أن تواجهها وحيدة. عزوف المعلن هو أول ما يتبادر إلى الذهن في أسباب هذه الازمة، والإنقاذ المالي هو أول فكرة جاهزة للحل، فرضيات صحيحة من الوهلة الأولى لكنها لا تعد معالجة استراتيجية لمشكلة تفوق مجرد العجز التشغيلي، كما أن هذا التفكير الريعي البحت لا يعبر عن قطاع له تأصيله العلمي وله أكاديميوه ونظرياته ومؤسساته ونماذجه، فهل يعقل أن الصحافة، وهي التي يقوم عملها على إيجاد حلول لكل القضايا، عاجزة عن أن تجد حلاً لقضيتها؟ إنه الوقت الأنسب اليوم لنفكر في دور الجامعات كمراكز تملك القوة العلمية والمنهجية والنخب الفكرية، وهو ما تفعله المؤسسات المهنية في مختلف أنحاء العالم، والتي تسلك الطريق العلمي حين تحتاج إلى حلول استراتيجية طويلة المدى بأقل هامش من الأخطاء أو احتمالية الفشل، وأزمة كأزمة الصحافة الورقية يمكنها أن تجد الحل في دراسات الخبراء والباحثين الذين يمكنهم إيجاد نقاط قوة جديدة في شكلها وهويتها، بما يضمن استمرارها في أداء دورها المتصل بالناس وبمتطلبات المرحلة الزمنية. الحلول العلمية هي الأنسب دائماً، وفي جامعاتنا، وحتى بين طلابنا المبتعثين، عقول وطاقات وكفاءات ذات تعليم عال، كما أن المؤسسات الصحفية تملك علاقات جيدة بالكثير من الجامعات وتملك كراسي بحثية في بعضها، الأمر الذي يتطلب منها أن تبدأ حواراً بناءً ومستمراً مع الجامعات وباحثيها يتم فيه تلخيص المشكلات الفعلية وتحديد عوامل القوة الحالية والمستقبلية وربطها ليس فقط بحاضر السوق بل بمستقبله، ومن ثم إنتاج الحل العملي وخطط وآليات ووقت وكيفية تنفيذه، المهم أن يبدأ هذا الحوار فقط. لقد أثبتت التجارب خطأ الجزم باختفاء أي وسيلة إعلامية أو مظهر ثقافي، فالإذاعة التي جددت أدواتها فانتشرت عبر تقنيات البث والأجهزة المحمولة، والكتاب الورقي ظل يحقق حتى اليوم أعلى المبيعات في معارض الكتب بعد سنوات عدة على التنبؤ باختفائه أمام الكتاب الإلكتروني وأساليب القراءة الحديثة والبديلة، وتأكد أن الجمهور هو من يقرر بناء على ما يحصل عليه من كل رافد للثقافة ومصدر للخبر، والمحتوى اللافت المتجدد سيظل محتفظاً بمقومات البقاء أياً كانت الوسيلة التي يقدم عبرها. في كل ما سبق، لا أحاول أن أنفي تطور الوسائل كحقيقة ثابتة ينبغي القبول بها وبنتائجها، ولكنني أتساءل فقط من قال أن هذه الوسائل تأتي دائماً كي تلغي بعضها؟ ومن الذي قرر أن الأمر يجب أن يحدث بهذه الحتمية دون أن يسأل الناس حتى عن خياراتهم، مفضلاً على ذلك الارتهان لفرضيات مجانية بإقصاء وسائل يملك كل منها تاريخه ونمطه وشخصيته. نايف العلياني
مشاركة :