القاهرة – في الطوابير الطويلة يتحركون، لديهم قدرة كبيرة على اختيار زبائنهم المحتملين الذين لا يفضلون الانتظار، يعرضون عليهم تسهيل الأمور مقابل مبالغ مالية تندرج تحت العشرات من المسميات. إنهم سماسرة المصالح الذين يتواجدون في غالبية الدول العربية بمسميات مختلفة ما بين “المُعقب” في السعودية و”المخلصاتي” في مصر و”سمسار” المعاملات في لبنان والوسيط وغيرها. وتطورت المسميات اللغوية للمبالغ التي يحصل عليها الوسطاء في مصر من “البقشيش” في عهد العثمانيين إلى “الوينغز” ماركة السجائر المعروفة بعهد الاحتلال الإنكليزي، ثم “كوب الشاي” وأخيرا “الاصطباحة” و”الإكرامية”. ويستطيع “المخلصاتي” التحايل على الأنظمة الصارمة للقوانين والتمسك المفرط باللوائح، عبر شبكة عنكبوتية واسعة من العلاقات بمختلف الدوائر الحكومية والخاصة لتسهيل تنفيذ الإجراءات والمعاملات المتبعة، ويصل نفوذ بعضهم إلى إنهاء معاملات لا تحمل أي صفة قانونية، ما جعلهم محط بحث دائم من الزبائن على وسائل التواصل الاجتماعي. هو إنسان جريء، خطواته أسرع من غيره يتابع الصحف بانتظام، ومع أي مسابقة رسمية للتوظيف يجمع ملفات التعيين ويرتبها ويبيعها، ومع مشكلات التحويل من المدارس الخاصة والزي المدرسي يظهر في صورة “حلال العقد”، ومع أي طابور طويل يكون متواجدا عارضا خدماته والإنجاز لمن يدفع أكثر. ويستمد “سماسرة المصالح” وجودهم من سلسلة الإجراءات الإدارية المعقدة وطول فترة الانتظار لتحصيل الخدمات الأساسية، ما يدفع المواطنين للبحث عن أي وسائل للالتفاف على تلك العراقيل، حتى ولو عبر دفع رشاوى لتمرير معاملاتهم بأسرع وقت وبأقل جهد. ويقول شحاتة محمد شحاتة مدير المركز العربي للنزاهة والشفافية (منظمة حقوقية معنية بتتبع قضايا الفساد)، إن “المخلصاتي” هو نتاج بيروقراطية الموظفين وتعطيلهم مصالح المواطنين الذين يلجأون للبحث عن أي وسيلة لإنجاز معاملاتهم بدل أن تظل معلقة لأسابيع. ويضيف شحاتة لـ”العرب”، أن “المخلصاتي” لن يستطيع إنجاز عمله إلا بمساعدة موظف حكومي يفتح أمامه الأبواب ويتقاسم معه الغنائم، ورغم منع ذلك النشاط قانونا والقبض على حالات من المخلصاتية بعدة مصالح حكومية في مصر على سبيل المثال، إلا أن الظاهرة مستمرة في ظل ضعف دور الأجهزة الرقابية الداخلية التي تتابع الأداء اليومي للموظفين. Thumbnail ومثلما تنتظر الجماهير في أفلام هوليوود البطل المُخلِص الذي يطير في السماء أو يشق الأرض، تنتظر غالبية المصريين “المخلصاتي”، فبدلا من الوقوف في طابور يمتد لساعات طويلة، يمكنهم إنجاز المعاملة في عدة دقائق فقط. ورغم تحفظ المجتمع المصري على “الرشوة” إلا أن أفراده يتعاملون معها يوميا. فالمركز العربي للشفافية أكد في دراسة عن الفساد بمصر سنة 2016، أن 80 بالمئة من إجمالي المعاملات تتم عبر الرشوة، وثمانية من بين كل عشرة مواطنين أكدوا تعرضهم لطلب رشوة تحت صيغ ومسميات مختلفة ودفع 70 بالمئة منهم بالفعل، بهدف إنجاز مصالحهم بسرعة. وأكثر “المخلصاتية” نفوذا ينتشرون أمام وحدات المرور من أجل استخراج رخصة جديدة، حيث على المواطن الانتظار بطابور فحص السيارات، بدءا من الخامسة صباحا، ثم البحث عن مكان لركن السيارة إلى حين الدخول لوحدة المرور لإتمام باقي إجراءات الترخيص، التي تتطلب ماراثونا من الصعود والنزول بين الأدوار المختلفة، واللف والدوران بين المكاتب والإدارات والانتظار الطويل لسير الإجراءات البطيئة. ويظهر المخلصاتي، كمسؤول عن تخليص إجراءات الورق بسهولة، أمام إدارات المرور؛ رجل أنيق يعمل غالبا في الإدارة أو تربطه علاقات وثيقة بموظفيها يتقرب من الزبون المختار عارضا خدماته وإنجاز الأمر، بمجرد الجلوس على المقهى لاحتساء كوب من الشاي يجد الرخصة بيديه، ينهي كل الأوراق الخطيرة كالساحر، والتي من بينها شهادة اجتياز القيادة ربما دون اختبار أصلا، وحتى اختيار اللوحات المعدنية المميزة، مقابل أموال قد تصل لـنحو 85 دولارا. وفي إحدى إدارات المرور بالجيزة، يترقب المواطن أحمد سعد الراغب في تجديد رخصته وصول الموظف “م . أ” بفارغ الصبر في المكان الذي يركن به سيارته يوميا، اعتقد للوهلة الأولى أنه شخص عادي، لكنه صدم عندما رآه ينزل من عربة مرسيدس من الفئة “سي”، في تمام الحادية عشرة ظهرا، اختلط عليه الأمر ولم يقترب منه إلا بعدما تأكد أنه الموظف المطلوب. ويقول سعد، لـ”العرب”، “استوقفته بعدما صدمت بسبب ماركة سيارته الفارهة، لكنه لم ينتظر ولم يفتح معي حوارا، سأل عن المطلوب فأعطيته الأوراق و500 جنيه (حوالي 30 دولارا)، وطالبني بالوقوف مكاني بجانب سيارته، وبعد ربع ساعة أرسل لي أوراقي جاهزة مع أحد سعاة المصلحة الذي قال لي، ‘الباشا أرسل لك هذا الملف"”. وبمصالح الشهر العقاري تبدو مزاولة مهنة المخلصاتية طبيعية، فإتمام توكيل بالتصرف في أموال أو الحصول على مستحقات من البنوك يتطلب الأمر كمّا هائلا من الموافقات والأختام، وفي كل مرحلة يتشكل طابور طويل، قد يتم تكرار الوقوف به أكثر من مرة بسبب أي خطأ طفيف. Thumbnail لكن المخلصاتي محمد.ع الشهير بـ”محمد. سكة” يختصر الأمر في مقولة “المخلصاتي يجعل المواقف مسايرة والقانون مطاطا”. ويشير سكة لـ”العرب”، إلى أنه تربطه علاقات بجميع الموظفين ويمكنه إتمام المعاملات خلال دقائق، بعدما عرف جميع الأوراق المطلوبة وصيغها السليمة ليس في مجال الشهر العقاري فقط، ولكن في معاملات تسجيل الوحدات السكنية ورخص المباني أيضا، معتبرا أن ما يحصل عليه هو مقابل أتعاب مثله مثل أي محام يحصل على مقابل مالي عن إتمام العقود أو رفع الدعاوى القضائية، والهدف النهائي للجميع هو إنجاز المصالح بأسرع وقت ودون جهد وهو ما يقوم به ويبرع فيه. وفتح قرار وزارة التموين المصرية بتنقية البطاقات التموينية من المتوفين والمسافرين للخارج، سوقا رائجة مع المخلصاتية، فتقول سارة عمر، إنها توجهت لإدارة التموين بمحافظة الغربية بدلتا مصر لحذف اسم والدها المتوفي من قاعدة البيانات، وتم سحب البطاقة منها لحين التنقية وبعد ثلاثة أشهر من التوجه يوميا لاستلامها، حتى يمكن الحصول على حصتها الشهرية لم تتلق إفادة من الموظفين. وأضافت لـ”العرب” أنها سمعت عن عامل بالإدارة يمكنه إنجاز المهمة، فتوجهت إليه مقابل مبلغ مالي يقدر بحوالي 100 جنيه (6 دولارات تقريبا) ونجح في إتمام المعاملة خلال أسبوع واحد، لتتمكن من الحصول عليها وصرف حصتها من المواد التموينية. ويقول موظف بهيئة حكومية، رفض ذكر اسمه، إن عددا كبيرا من المخلصاتية خريجو كليات الحقوق ويعرفون جيدا القوانين، ويتزايد دورهم في تخليص مصالح المواطنين بإيجاد ثغرات تشريعية لحلها. ويؤكد، لـ”العرب”، أن الموظفين لا يجبرون أحدا على دفع أموال لتسهيل إنجاز مصالحهم، بل العكس المواطنون هم الذين يعرضون، رافضا اعتبارها رشاوى، والأمر من وجهة نظره لا يتجاوز وسيلة لتحسين دخل الموظفين الذين لا يزال بعضهم يتلقى رواتب لا تكفي نصف نفقاتهم الشهرية. ولا يتوقف عالم المخلصاتية عند الموظف البسيط الذي يتولى إدارة الأمور، لكن بعضهم حقق شهرة واسعة، مثل سكرتير فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق، والحاصل على مؤهل دراسي متوسط، لكنه استطاع نسج شبكة علاقات واسعة مع وزراء ومحافظين ومسؤولين كبار، ونجح في توظيفها لخدمة بعض رجال الأعمال نظير مقابل مادي معين، وكون من ذلك ثروة طائلة.
مشاركة :