مُنذُ أَنْ تَقَاعَدتُ، بَدأتُ أَشعُر بجَمَاليَّات الحَيَاة، وقِيمة الوَقت، وتَعلَّمتُ فَنّ الاستمتَاع برَوعة المَكَان، ونَبْض الزَّمَان.. وقَد كَتبتُ كَثيراً عَن التَّقَاعُد المُبكِّر ومُميّزاته، ولَكنِّي اليَوم، سأَتحدَّث عَن مَفهوم الوَظيفَة، باعتبَارهَا نَوعاً مِن أَنوَاع العبُوديَّة..! لقَد جَاءَت نَاصِيَة فِي كِتَاب «النَّواصِي»، لشَيخِنَا «أبي سفيان العاصي» تَقُول: إنَّني أَتّفق تَمَاماً مَع المُفكِّر الكَبير، «عبّاس محمود العقّاد»، حِينَ قَال: (إنَّ الوَظيفَة هي عبُوديّة القَرْن العِشرين). والدَّليل عَلَى ذَلك، أَنَّ المُوظَّف إذَا تَرَكَ الوَظيفَة يُقَال لَه: «لقَد طُوي قَيدك»، أَي أَنَّه عُتِق مِن قَيد عبُوديَّة الوَظيفَة..! أَكثَر مِن ذَلِك، يَقول الشَّاعِر: عِفتُ السيَاسَةَ حتى ما ألِمُّ بِهَا لأنَّها جَشَّمتني كُلَّ نَائِبةٍ وقَد رَددتُ إليهَا كُلَّ مِيثَاقِ وأنّها كلَّفتني غَيرَ أخلَاقِي!! ونَظراً لأَنَّنا تَركنَا السِّيَاسَة لأَهلهَا، سنَستَبْدِل كَلِمَة السِّيَاسَة بكَلِمَة «الوَظيفَة»، ليُصبِح الشَّطر الأَوَّل: «عِفتُ الوَظيفَة حَتَّى مَا ألِمُّ بِهَا»، مَع الاعتِذَار للشَّاعِر..! وقَد بَالَغ بَعض العُلمَاء فِي ذَمِّ الوَظيفَة، ومِنهم شَيخنَا القَدير، الذي تَعلَّمنَا مِنه الكَثير، العَلَّامَة «عبدالفتاح أبوغدة» -رَحمه الله- صَاحِب كِتَاب «العُلمَاء العُزَّاب»، وصَاحِب كِتَاب «قِيمة الزَّمَن عِندَ العُلَمَاء»، حَيثُ يَقول: (الوَظيفَة تُنَافي العَقيدَة)، وقَد شَرح ذَلك بقَوله: (هَل رَأيتَ مُوظَّفاً يَقول: اللَّهمَّ ارزُقْنِي؟)..! حَسنًا.. مَاذا بَقي؟! بَقي القَول: إنَّ مَن يَعرفون قِيمة الوَقت، يُحَاولون -دَائِماً- الانعِتَاق مِن عبُوديَّة الوَظيفَة؛ بأَسرَع وَقت وبأَي طَريقَة، ولَعلَّ أَشهَرهم العَالِم الكَبير «ابن الهيثم»، الذي ادَّعى الجنُون فِي زَمَن الدَّولَة الفَاطميَّة، ليَسمَح لَه الحَاكِم بالتَّقَاعُد الاضطرَاري؛ بسَبَب ظرُوفه الصّحيَّة..!! نقلا عن "المدينة"
مشاركة :