في الخامس والعشرين من نوفمبر 1970 اقتحم الكاتب الياباني المرموق يوكيو ميشيما مع أربعة من أتباعه من ميليشيا “جماعة الدرع”، معسكرا للجيش الياباني، وقيدوا قائده، ثم خرج ميشيما إلى الشرفة ليخطب في جمع من الجنود داعيا إلى التمرد واستعادة سلطة الإمبراطور وهيبته المفقودة، لكن الجنود أخذوا يسخرون منه، فعاد إلى مكتب القائد حيث انتحر بطريقة الهاراكيري أي بشق أسفل بطنه بالسيف. بعد هذا مباشرة حاول أحد جنوده الأربعة تنفيذ وصيته بقطع رقبته بالسيف لكنه فشل، فتناول السيف جندي آخر وأخذ يقطع رقبة ميشيما ثم انتحر بدوره بنفس الطريقة. أصبح ميشيما بسبب هذا “الموت العدمي المهيب” أسطورة في الثقافة اليابانية الحديثة. كان في الخامسة والأربعين حينما انتحر بهذه الطريقة. فماذا كان هدفه؟ وهل كان يتصور أنه يستطيع بمجموعته الصغيرة قيادة انقلاب على النظام في اليابان؟ وماذا وراء مقصده من استعادة هيبة الإمبراطور؟ وكيف يمكن فهم جنوحه للانتحار من خلال أعماله الروائية العديدة التي بلغت 35 رواية، و25 مسرحية، و200 قصة قصيرة، و8 مجلدات من المقالات؟ كان ميشيما مع معلمه ومثله الأعلى، الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا، أشهر وأهم كاتبين في اليابان فيما بعد الحرب العالمية الثانية مع اختلاف الأجيال، فكاواباتا من مواليد 1899 وميشيما ولد عام 1925. وكانت موهبة ميشيما الجامحة قد تفجرت وهو لا يزال في الثانية عشرة من عمره، لكنه أرسل رسالته الأولى إلى كاواباتا عام 1945. واستمرت المراسلات بينهما حتى قبيل انتحاره عام 1970. وقد صدرت المراسلات عام 1997، لكنها ترجمت ونشرت بالعربية مؤخرا، وأثار صدورها اهتماما كبيرا في الأوساط الأدبية والنقدية، خاصة أنها تكشف الكثير من الجوانب الخفية في العلاقة الملتبسة بين الرجلين. في رسالته ما قبل الأخيرة يقول مشيما لكاواباتا ” قد تسخر مني لكن ما أخافه ليس الموت، بل شرف عائلتي من الموت، وإذا حدث لي شيء، فإن المجتمع سوف يكشف عن أسنانه ويبحث عن نقاط ضعفي ليدمّر شرف عائلتي. ليس مهما أن يسخروا مني وأنا موجود، ولكن لا أستطيع تحمل سخريتهم من أطفالي بعد موتي. وأعتقد يا سيد كاواباتا، أنك أنت الوحيد القادر على حمايتهم. وأنا منذ الآن، أعتمد عليك وأثق بك”. موت ميشيما العدمي سيدفع أستاذه كاواباتا إلى الانتحار بعده بعامين. وقيل إن دافعه كان شعوره بالذنب بعد أن انتزع من ميشيما جائزة نوبل التي رشح لها الأخير ثلاث مرات وأدرك أنه لن يحصل عليها أبدا لحسن الحظ لدينا مرجع بصري شديد الأهمية يعرض لحياة ميشيما أنتج وعرض قبل صدور المراسلات، وهو الفيلم الأميركي الذي أخرجه عام 1985 بول شرايدر وأنتجه اثنان من عمالقة هوليوود: فرنسيس فورد كوبولا وجورج لوكاس. الفيلم هو “ميشيما: حياة في أربعة فصول”. ويقوم بدور مشيما الممثل الياباني كن أوغاتا. وهو يعتبر تجربة غير مسبوقة في السينما الأميركية، فشرايدر أراد صنع فيلم ياباني لحما ودما، فجميع الممثلين من اليابانيين، ودار تصويره في اليابان، باللغة اليابانية، واشترك عدد من اليابانيين في تطوير الموضوع مع شرايدر إلى جانب الديكور وتصميم المناظر والملابس والماكياج. الفصول الأربعة بناء الفيلم مكون من أربعة فصول تحمل العناوين التالية: الجمال، الفن، الفعل، التناغم بين القلم والسيف، ويتم التعبير عنها من خلال تداخل شعري بين الماضي والحاضر والمتخيل، فالفيلم يعود إلى الماضي ليستعرض نشأة وبروز هذا الكاتب العبقري الذي ظهرت موهبته وهو في العشرين من عمره، ثم يرتد الى الخيال، يقتبس من ثلاثة أعمال روائية لميشيما تتداخل قصصها المقتضبة مع الماضي، لينتقل من الخيال ومن الماضي، إلى الحاضر أو بالأحرى إلى الزمن المضارع في الفيلم أي قبيل بلوغ النهاية الدموية التي أغلقت مصير بطلنا، ولكن على حلقات متصلة تمهد تدريجيا لتلك النهاية. هناك ثلاثة مستويات زمانية في الفيلم: الماضي (بالأبيض والأسود)، والحاضر بألوان الواقع المحايدة، ويأتي متقطعا موزعا عبر الفصول الأربعة وصولا إلى الكشف تفصيلا في الفصل الأخير عن النهاية التراجيدية. وبين الماضي والحاضر، هناك المستوى الثالث وهو الخيال المستمد من روايات ثلاث لميشيما يربط من خلالها بين أفكاره وتأملاته وفلسفته التي تدور حول الفن والجمال والجسد والرغبة والانتحار والموت، وبين نهايته المهيبة المرسومة مسبقا. وهذه المشاهد الخيالية مصورة بألوان خاصة تشبه ألوان القصص المصورة (الكوميكس) يبرز فيها الأحمر والذهبي. التلاعب بالزمن يعتبر فيلم بول شرايدر المصنف ضمن أفلام السيرة، شديد الطموح من حيث البناء واللغة السينمائية، وهو يقوم على الاستخدام المركب للزمن، بحيث يؤكد مجددا فكرتنا عن كون السينما هي أساسا فن التلاعب بالزمن. ويتناسب التركيب الشكلي في بناء الفيلم رغم سيولته وجماله البصري الخلاب، مع شخصية ميشيما المركبة متعددة المستويات: تناقضاته وصراعه الداخلي مع الذات ومع الزمن، رغبته في أن يصبح جذابا (ربما للرجال أكثر) عن طريق تقوية جسده، سيطرة فكرة الموت المبكر انتحارا من أجل وقف زحف الشيخوخة، لكن الفيلم يبدأ من طفولته. يستخدم المخرج التعليق الصوتي المصاحب للصورة بصوت ميشيما (أو بالأحرى بصوت الممثل كن أوغاتا)، الذي يروي الأحداث، يتوقف ويعلق، وكثيرا ما نراه وهو جالس أمام مكتبه يكتب أعماله الأدبية. وهذا التعليق يقتبس الكثير من العبارات والتعبيرات الحقيقية التي وردت بالفعل في كتابات ميشيما. يقول ميشيما على خلفية صوره في طفولته إنه كان يتمنى أن يموت بعد ميلاده مباشرة، وقد قرر أن يتخذ لنفسه اسم ميشيما (اسمه الأصلي هو كيميتاكي هيراوكا). آمن ميشيما بالتآلف بين القلم والسيف آمن ميشيما بالتآلف بين القلم والسيف نراه أولا مع جدته التي يخبرنا بأنها انتزعته من أمه بعد سبعة أشهر من مولده، وظلت تمنعه من الخروج والاحتكاك بغيره من الأولاد خشية عليه، ولكنه عاد إلى أمه عندما بلغ الثامنة، وبعد تدهور الحالة الصحية للجدة. وفي المدرسة نشاهد رغبته المبكرة في التحدي والتغلب على ما يصفه به أقرانه من نعومة وأنثوية. لكنه سيكبر ويهوى الكتابة ويمارسها يوميا، ثم عندما يشعر أن الكلمة لا تكفي سيتجه إلى التصوير والسينما حيث سيقوم بأدوار ثانوية. وفي أحد المشاهد مع بداية الحرب، يستدعى للجيش وكان مصابا بنوبة برد لكنه يبالغ كثيرا فيعتقد الطبيب أنه مصاب بمرض السل فيعفيه من الخدمة. ويعلق هو قائلا “رغم أنني كنت أتوق لحياة الجندية منذ الصغر إلا أنني لا أعرف لماذا تظاهرت بالمرض!”. ميشيما مشغول بالجمال، جمال الجسد وجمال الأشياء. ومن روايته “معبد القبة الذهبية” يأتي الجزء الأول الخيالي في الفيلم الذي يدور حول شاب متلعثم في الحديث، يعاني لكي ينطق الكلمات، يدفعه صديقه إلى استغلال تلك العاهة في جعل الفتيات يتعاطفن معه ويقعن في حبه، لكنه ينتهي بإشعال النار في المعبد البوذي البديع لشعوره بالعجز والضآلة أمامه. هاجس الجسد ميشيما يرى أن الجسد الجميل ليس من الممكن أن يظل جميلا، فبعد الأربعين يبدأ في التدهور. ولكي يحافظ الجسد على جماله يجب أن يموت المرء بإرادته، بيده قبل أن يشيخ. ويبرز اهتمامه الكبير بجسده، في اتجاهه إلى تصوير نفسه كموديل للمصورين ثم في ما كان يصوره لنفسه من أفلام: “أنا فقط اهتم بوجهي وأهمل جسدي.. سأتدرب على كمال الاجسام.. ليصبح جسمي كله هو وجهي”. إنه ولع أيضا بالمرآة التي يتأمل فيها صورته. في نادي المثليين.. يجلس ميشيما. على شريط الصوت يأتي صوته: إن حياتي من وجوه عديدة تشبه حياة الممثل. إنني أرتدي قناعا.. ألعب دورا.. الممثل يشبه الشاذ جنسيا، فعندما ينظر في المرآة يرى ما يخيفه.. ترهل الجسد.. يرقص مع شاب.. يتحسس الشاب جسده. يقول له: جسدك ناعم.. يغضب ويتركه. يعود يجلس ويكتب في منزله. يتصل الشاب يريد أن يعرف ماذا اغضبه. أمام المنزل يلتقيان. ينظر في وجه الشاب ويقول له: كلانا مهتم بالجمال. أنت عندما تنظر في المرآة ترى الجمال أما أنا فأشعر بالخوف. من فضلك لا تمزح معي مرة أخرى. الجزء الثاني الخيالي المقتبس من رواية “منزل كيوكو”، يصور العلاقة الغريبة بين ممثل شاب يدعى “أوسامو” وامرأة تكبره في السن، تهدد بحبس أمه التي تدين لها بمبلغ مالي كبير، تصبح العلاقة بينهما علاقة مازوكية- سادية، وتنتهي بانتحار الاثنين. هنا نرى أوسامو الذي يعكس الجوانب المختلفة في شخصية ميشيما نفسه تارة كملاكم، وتارة أخرى كرسام، وتارة ثالثة كممثل ثم كرجل أعمال يزدري الواقع. في هذه القصة تركيز واضح على فكرة الانتحار التي تتردد في كتابات ميشيما. وهي تتضح بشكل أكبر في الاقتباس الأدبي الخيالي الثالث المستمد من “الخيول الهاربة” (وهي الرواية الثانية من رباعيته الشهيرة التي اختتم بها حياته “رباعية بحر الخصوبة”)، بطلها شاب يتمسك بتقاليد الساموراي، يريد أن يشن مع رفاقه انقلابا دمويا على حكومة التنكوقراط التي تحكم اليابان في أوائل الثلاثينات والتي يرى أنها حكومة فاسدة، لكنه يفشل فينتحر بطريقة الهاراكيري. هذه القصة تتسق مع قصة مشيميا نفسه وكأنه كان يرسم مقدما خطة موته القادم. إنه سينتقل من الكلمة إلى السيف، يتدرب على المبارزة بالسيف، ويؤسس “جمعية الدرع” حيث يوقع مع أتباعه من الجنود الشباب وثيقة التأسيس بالدم. نظرة المخرج ميشيما في مكتبه مع أحد أعضاء جماعته العسكرية ميشيما في مكتبه مع أحد أعضاء جماعته العسكرية من دون مغالاة أو استطرادات أو مشاهد اقتحامية مثيرة، يتعامل بول شرايدر من خلال بناء ما بعد حداثي، مع الكثير من أفكار ميشيما برقة وجمال، ويبدو متفهما لدوافعه، متعاطفا معه. إنه نموذج مثالي للفنان الذي لا يمكنه كبح جماح انفعالاته ومشاعره، متقلب الأهواء، ينتقل من فكرة إلى أخرى، يتناقض مع الصورة المستقرة في وعينا جميعا عن الفن الجميل الذي ليس من الممكن أن يكون رجعيا، فيعتنق أفكارا رجعية، يريد العودة باليابان إلى تقاليد الفروسية القديمة، إلى عصر الساموراي، ورد الاعتبار للإمبراطور كإله وليس مجرد رمز للحكم كما حدث بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. إنه يرتد إلى السيف ويؤمن بالتناغم بين الكلمة والسيف، أي بين قوة الكلمة وقوة الفعل. ولاشك أن شرايدر ينظر إلى جنوح ميشيما كنوع من الجنوح الفني المجنون. ولا شك في وجود علاقة ما بين ترافيس بيكل بطل فيلم “سائق التاكسي” الذي كتب له شرايدر السيناريو، وبين ميشيما، فكلاهما مدفوع من البداية إلى تدمير الذات، وهو ما عبر عنه شرايدر في ما بعد في مقابلاته. يذهب ميشيما ليواجه طلاب جامعة طوكيو عام 1969 في خضم انتفاضتهم العارمة ضد سياسات النظام في زمن الاضطرابات الطلابية المناهضة لحرب فيتنام. الطلاب اليساريون يهاجمونه بشدة ويرفض معظمهم وجوده: أنت لست فقط مخطئا بل عديم المنطق.. يرد بالقول “سأنضم إليكم فقط إذا ناديتم الإمبراطور بلقبه الشرعي.. ما تقولونه هراء.. فكروا في ما تقولون.. كلنا نسعى لخير اليابان… نحن نلعب لعبة خطرة.. لقد لعبنا كل الأوراق… لكن الجوكر معي.. فمعي الإمبراطور”. يعود إلى منزله يجلس ويكتب: جلست أكتب كما كنت أفعل لمدة 20 سنة، وشعرت بالخواء. عادت نفس الكلمات.. من دون جهد.. على نحو عاجل.. مرة أخرى بدأ التدريب.. (تقترب الكاميرا من وجهه). لقد بدأ التدرب على الموت، ذلك “الموت العذب” الذي كان يحلم به دوما.. الموت المرتب مسبقا. لقد أراد أن يخرج مشهد موته في عمل فني خلاب آسر يحرك القلوب. عندما يصل الفيلم إلى الفصل الأخير، يتجه ميشيما مع جنوده الذين أقسموا على الولاء له حتى الموت، نشاهد عملية الانقلاب الفاشلة الهزيلة، ثم انتحاره المهيب بطريقة الساموراي. لقد كان يعرف أن محاولته لن تنجح. يقول بعد أن ينتهي من خطابه في جنود المعسكر: إنهم حتى لم يستمعوا إلى ما قلته. موت ميشيما العدمي سيدفع أستاذه كاواباتا إلى الانتحار بعده بعامين. وقيل إن دافعه كان شعوره بالذنب بعد أن انتزع من ميشيما جائزة نوبل التي رشح لها الأخير ثلاث مرات وأدرك أنه لن يحصل عليها أبدا. فهل كان ميشيما ينتحر يأسا؟
مشاركة :