"حقا إنّها لنكتة" ذلك ما قاله المخرج والممثل محمد بن بار، وهو يصف حياة فاسيلي فاسيلتش التي عاشها، قبل إن يسقط ميتا على خشبة المسرح. الحياة بمعاناة عيشها للكثيرين هل من العدل وصفها بأنها نكتة؟ ذلك ما تجيبنا عنه مسرحية “أغنية التم” التي تم تقديمها مؤخرا على مسرح محمد الخامس في الرباط، وسط حضور كثيف من محبي المسرح. المسرحية من تقديم فرقة مسرح أثينا، ومثلها ممثلان فقط هما،عازف العود أسامة بورواين، ومخرجها محمد بن بار، وهي من تأليف الكاتب الروسي أنطون تشيخوف. الأغنية الأخيرة المسرحية تحكي قصة كل فنان ومبدع ومفكر، اعتمد في عمله الفن والفكر لإمتاع الناس، وجعل حياتهم أفضل، ولكن تخلف المجتمعات وعدم فهمها لمهمة هؤلاء المبدعين وأهميتهم جعلهم يتعرضون للحَيْف. فعليّة الناس ينظرون إلى هؤلاء كمُهرّجي سيرك، وطارئين على المجتمع، فيجعلهم هذا الإجحاف يشعرون بالغبن والإحباط. تبدأ المسرحية باستيقاظ بطلها الرئيسي الممثل فاسيلي فاسيلتش من النوم، بعد أن أدَّى دورا في مسرحيته الأخيرة أمام جمهور قليل،غير مبال بما عرض أمامه. وعندما يستيقظ من نومه يدّعي أن جمهور العرض الأخير، الذي مثل أمامه، صفق له ست عشرة مرة، وعند نهاية العرض قُدمت له ثلاث باقات ورد. وبعد مونولوج طويل عن أدواره السابقة، يفاجأ فاسيلتش بوجود الملقن نيكيتا إيفانيتش الذي لا يجد مأوى يقضي به ليلته، فيبيت في المسرح. وأدى دور الملقن، أسامة بورواين، وبالرغم من أنّ دوره كان قصيرا إلا أنّه أغناه بعزفه المميز على العود. المسرحية تحكي قصة كل فنان ومبدع ومفكر، اعتمد في عمله الفن والفكر لإمتاع الناس، وجعل حياتهم أفضل المسرحية مونودراما -من بطل واحد- مثلما مثلت في العديد من المسارح العربية، كما في العراق ومصر، ودول الخليج العربي. والإضافة الفنية للمخرج المغربي، أنَّه جعل الملقن عازفا على العود في النسخة المغربية قد أثرت العرض. وأعطت مونولوجات بطلها عمقا إنسانيا عاطفيا، مما جعل الجمهور يتعاطف معه بما للموسيقى من دور مؤثر، وخاصة آلة العود. وصار أكثر تعاطفا حين آه الجمهور يندب حظه، كما يفعل “طائر التم” الذي يعرف اليوم الذي سيفارق فيه الحياة، فيحلق عاليا، ويصدر صوتا أشبه بالنواح قبل أن يهوي من عل ميتا. وقد عوض المخرج، وممثل الدور الرئيسي محمد بن بار تلك الأغنية الأخيرة للطائر بنوح العود، الذي أجاد العزف عليه بورواين. مصائر أهل الفن كان لقصة الحب التي رواها فاسيلتش والتي حدثت له مع فتاة جميلة من الطبقة المثقفة في المجتمع، الأثر الكبير في نفسه وعندما عرض الزواج على تلك الفتاة المفتونة به. خيرته بين حبه لها، وعمله في المسرح، فعمله كممثل في رأيها لا يرقى إلى أي عمل محترم في المجتمع. وهو في كل الأحوال حسب ظنها من أعمال التسلية، لتمضية الوقت، والممثل، مهما كبر شأنه في المسرح، فهو أشبه بالبهلوان الذي يضحك الناس في الأسواق والمقاهي، والبارات، فيجود عليه المحسنون بالمال. ولذلك لكي توافق على الزواج منه، عليه أن يترك التمثيل، ويبحث عن حرفة أخرى. لكنه يبقى وفيا لفنه وعمله في المسرح فيرفض تحقيق شرطها، وبعد ذلك بسنوات يقع في الحب مرة أخرى، لكن التي يغرم بها من جديد تطلب منه ذات الطلب، حتى توافق على الاقتران به. فيرفضها أيضا، ويبقى محبا لعمله المسرحي، ولم يحصد من محبته للفن خلال الأربعين سنة سوى الوحدة، والفقر، ونكران الناس لشخصه وفنه ونسيانهم لما قدمه من أدوار مسرحية لا تنسى. ويمثل فاسيلتش بعض الأدوار المسرحية، التي مثلها طوال حياته الفنية، بتقنية -المسرح داخل المسرح- وأتاح الديكور رؤية بانورامية لهدف المخرج إلى التعبير عن الحقبة اليونانية، بتماثيلها الضخمة، وعظمة منحوتاتها، وبوابات المدن الرخامية. وكل بهاء المنحوتات للدلالة على فخامة ما قدمه فاسيلتش من أدوار فخمة، لملوك وأبطال من الماضي بقي مجد ما صنعوا خالدا. مسرحية “أغنية التم” من نوع مسرح الفودفيل الاجتماعي الهزلي، الناقد للمجتمع ولبناه الفوقية، اللذين لا يقدران الفن والفنانين، ويعتبرانهم مهرجين، وجزءا من حثالة المجتمع، حيث لا يعبأ بهم. وضعت المسرحية الفنانين جزءا من المجتمع رغم عدم اعتباره لهم، ومعاملته لهم كما لو أنَّهم غير أسوياء، بالرغم من شهرتهم، والتصفيق لهم، ومتابعة أخبارهم الخاصة، وإثارة الشائعات حولهم إلا أنَّهم يبقون غرباء. وحكت المسرحية بشكل خاص عن مصائر فناني المسرح في الوطن العربي، وما يؤول إليه مصيرهم عند الكبر والعجز عن العطاء، وكيف تتحول حيواتهم وبعد ذلك ميتاتهم إلى مآس، هي بحاجة إلى من يحولها إلى مسرحيات. ولذلك حول المخرج العرض الفودفيلي الهزلي الذي كان ينتظره الجمهور إلى عرض درامي حزين. وبقيت عبارات فاسيلي الأخيرة “حيث يوجد الفن لا توجد الشيخوخة.. علينا أن نبقى نعطي حتى نموت على خشبة المسرح” تدور في أرجاء قاعة العرض، حتى بعد موت الممثل، وانتهاء العرض.
مشاركة :