تجتمع في مكان واحد تجربتان فنيتان رائدتان متمثلتان في أعمال كل من السويسري ألبرتو جياكوميتي والبريطاني فرانسيس بيكون. معرض جديد يقدم فرصة استثنائية للاقتراب أكثر من هاتين التجربتين، أين تلتقيان وأين تبتعدان وكيف تتحاوران وما هو الأثر العميق الذي تركتاه في المشهد التشكيلي الغربي؟ يقام المعرض في «مؤسسة بايلير» Fondation Beyeler التي أسست عام 1997 وتحمل اسم صاحبها مقتني أعمال الفن الحديث إرنست بايلير الذي توفي عام 2010، بعدما تمكن من تشكيل مجموعة خاصة تعد من أهم المجموعات في العالم، كما أنه أسس عام 1971 «سوق بازل للفن المعاصر» التي تتمتع بشهرة عالمية ويقصدها آلاف الزوار من العالم. يأتي المعرض المخصص لجياكوميتي وبيكون في إطار سلسلة من المعارض تقيمها المؤسسة منذ تأسيسها للتعريف بنتاج مبدعين مع الإضاءة على جوانب غير معروفة. ويكشف المعرض العلاقة الإنسانية التي جمعت الفنانين منذ لقائهما الأول مطلع ستينات القرن العشرين في مقهى باريسي برعاية الصديقة المشتركة الفنانة البريطانية إيزابل روستم. وبين عامَي 1962 و1965، تكررت اللقاءات في لندن لأن جياكوميتي صار يتردد على العاصمة البريطانية لمناسبة تنظيم معرض له في «متحف تيت غاليري». ويضم المعرض صوراً بالأبيض والأسود التقطها المصور غراهم كين عام 1965 ويظهر فيها الفنانان معاً في حوار خاص، كما هناك مئة عمل تتنوع بين الرسوم واللوحات والمنحوتات، وهي تختصر أوجه اللقاء بين مسيرتَي الفنانين والمراحل الأساسية في مسيرتيهما منذ البدايات وحتى الوفاة. ومن السمات المشتركة بين الفنانين، ابتعادهما من التيارات الفنية السائدة التي هيمنت منذ مطلع القرن العشرين ومنها السوريالية والتجريدية، وإصرارهما على رسم البشر بأسلوب خاص وجريء مركزين على فن البورتريه. لم يرسما الأجساد والوجوه بأسلوب كلاسيكي وواقعي بل عمدا الى تكسيرها وتفتيتها معبرين من خلالها عن حالات إنسانية قصوى وعن الضعف البشري الممتزج بالعنف والإحباط. إنه «الجرح السري» الذي تحدث عنه الكاتب الفرنسي جان جينيه، ففن كل من جياكوميتي وبيكون هو سعي إلى اكتشاف الجرح السري عند كل الكائنات وحتى في كل الأشياء للإضاءة عليه وإبرازه. يذكر أن جينيه خصص كتاباً للتحدث عن جياكوميتي في محترفه وللغوص في عوالمه الداخلية مثلما فعل ميشال ليريس مع بيكون في اقتفاء أثر العنف في نتاجه وكيف يتحوّل إلى أشكال وخطوط تشرّح النفس البشريّة وتكشف معاناتها من طريق الإبداع. هذا فضلاً عن أنّ جينيه كان أحد الوجوه التي رسمها جياكوميتي بأسلوبه القائم على خطوط نزقة، متوتّرة وشديدة الكثافة، والقادرة على النفاذ إلى الجهة غير المرئية من الأشياء. وقالت المسؤولة عن المعرض كاترين غرونييه أثناء لقاء أجرته «الحياة» معها يوم الافتتاح: «جمعت بين الفنانين صداقة عميقة وفريدة قائمة على الأخوة والحوار المتبادل. ورغم الشهرة الكبيرة التي تمتعا بها قبل وفاتهما، فقد ظلا يعيشان ببساطة وتواضع وفي محترفات صغيرة شبيهة بغرف الفنادق. ولاستعادة أجواء هذه المحترفات، خصصنا صالة تنتهي بها زيارة المعرض واستعنّا فيها بأحدث التقنيات السمعية والبصرية والرقمية حتى يشعر الزائر عند دخولها بأنه في محترف جياكوميتي ومحترف بيكون. كما يمكن الاستماع الى تسجيلات لأصواتهما وهما يتحدثان عن أعمالهما وعلاقتهما بالأمكنة». تبقى الإشارة الى أسلوب العرض الجميل للتحف، في قاعات شفافة ذات واجهات زجاجية مفتوحة على الضوء وعلى جنائن وبساتين خضراء تسرح فيها الماشية. ولا بد من التذكير بأن مبنى مؤسسة بايلير يعد بحد ذاته تحفة فنية تستحق الزيارة وقد صممه المعماري الإيطالي الشهير رنزو بيانو الذي ارتبط اسمه بعدد من الإنجازات الباهرة ومن أشهرها في باريس «مركز بومبيدو الثقافي».
مشاركة :