المجتمع وصناعة التشوه - فهد محمد السلمان

  • 11/27/2014
  • 00:00
  • 29
  • 0
  • 0
news-picture

أحيانا يُساورني الشك في أننا نُسهم بشكل أو بآخر في تكريس صفة التشوّه في مجتمعاتنا بقصد أو من غير قصد من خلال الإمعان في النقد على حساب إبراز قيم الإخلاص، إما بدافع الغيرة غير المحسوبة، أو بدافع الرغبة في تقمص أدوار البطولة، ونيل رضا الجمهور، حيث ينقلب واقعنا كله إلى مسلسل مكسيكي من النقد الحاد، الذي لا يسطع فيه نجم إلا لمن يُسرف في الانتقاد، ولا يرتفع فيه سهمٌ إلا لمن يذهب أكثر إلى مسّ العظم. لكن وقبل أن تتسع حدقات أعينكم، أريد أن أقول: إن المجتمع الذي لا ينتقد ذاته هو مجتمع منافق، بل ومصاب بالبارانويا "الإحساس بالنزاهة"، ليس هذا هو ما أريده، وإنما أريد أن أقول: إن تحوّل المجتمع كله إما إلى آلة تجريف نقدي تحتطب الأخضر واليابس، أو إلى جمهور مصفقين للتجريف وسدنته، لا بد وأن يُساهم دون أن يعي بصناعة حاضنة تشويهه بيديه، حتى لا يعود يرى إلا ما هو مشوهاً، ومُداناً، حتى الأعمال الطيبة قد تبدو في عينيه مُغرضة وغير بريئة، فالمقاتل في ميادين الحروب قد تصدمه الدماء للوهلة الأولى، لكن حينما لا يجد موطئاً لقدمه دون دم، يتحوّل هذا الواقع إلى دافع إلهام لرفع معدل الشراسة، كذلك الذي يجد نفسه في بيئة منتنة، قد يشعر بالصداع والدوخة والرغبة في التقيؤ بادئ الأمر، لكنه مع طول المكث والبقاء لا يعود يجد أي أثر لتلك الرائحة. نحن نصنع واقعنا عبر العادة والتعود وبأيدينا متى ما قبلنا أن نصرف كل اهتمامنا إلى جزء واحد من المشهد مع إلغاء أو تجاهل كل ما هو ضمن إطار الرؤية، وبهذه الطريقة قد ندفع أنفسنا للقبول بقناعة أن هذا هو السائد، وما عداه فليس أكثر من استثناء لا يُعتدّ به، وهذا الانزياح الفاضح للسلبية يقوم بدور دابة الأرض أو حشرة العث في تآكل كل القيم النبيلة التي نزعم أننا نُقاتل بكل أسلحة النقد لإحيائها وحمايتها. أشعر أننا وصلنا من خلال استخدامنا للنقد دون معايير إلى مرحلة تجعل ذكر المحاسن حكراً على الأموات، أما الأحياء فكلهم بلا محاسن إلى أن نمشي خلف نعوشهم، وهو فهمٌ مشوّه للحديث الشريف (اذكروا محاسن موتاكم) في حين أن المعنى العميق لهذا الحديث "حسب فهمي" يقول: دعوا مساوئ الراحل لله يُحاسبه عليها بعد أن أصبح بين يديه، واذكروا محاسنه فقط لتترحموا عليه، وهذا لا يسلب أو يُصادر ذكر محاسن الأحياء، والتي من شأنها رفع معنوياتهم للاستمرار فيها، وكذلك حرث الأرض لاستنبات القدوة الطيبة فيها، أنا أحزن كثيراً عندما تخرج علينا تلك المطولات لتتحدث بسخاء عن مآثر فقيد كان طوال حياته أسيراً لعتمة التجاهل، وأتساءل لماذا لم نعرف كل هذا أو بعضه إلا بعدما غيبه الموت؟ ليشدّ المجتمع على يده، ويحوّله بما يستحق لحبة القمح التي أنبتت سبع سنابل لتصنع التغيير، وتحد من المساوئ التي يُسوّقها النقد العارم كصيغة حياة لا محيد عنها. يقول الدكتور علي الوردي: (أهملنا احترام المخلصين بيننا.. فقلّ بذلك ظهور المخلصين لنا)، ويقول أيضا: (إن الإنسان حين يرى الهدف الخلقي بعيداً عنه بُعداً شاسعاً قد يتملكه اليأس، ويأخذ عند ذلك بإهماله أو الاستهتار به)، وهذا احتمال كبير قد يحدث حينما لا يجد المخلصون من يُقدر إخلاصهم، أو يتجاهله على الأقل. فهل نتنبه إلى أن تصفيقنا لنقد السيئين وإضفاء صفات الفروسية على الناقد أيّا كانت غايته ومراده، وبقطع النظر عن موضوعيته، مقابل الإشاحة بوجوهنا عن المخلصين، وعدم التصفيق لهم وبنفس الدرجة، لكن ليس على غرار تصفيق بعض المجالس، يجعلنا كمن يجرّ المجتمع ليخوض طوال الوقت في وحول التشوّه، دون أن يخرج منها ولو قليلاً ليتطهّر بمياه الإخلاص التي لن نعدمها بيننا إن شاء الله.

مشاركة :