تسدل الانتخابات البلدية ستارها الأحد 6 مايو 2018 لكن لا شيء يدفع إلى الأمل بتغيير محتمل على الأرض، بل إن التغيير قد يلوح عكسيا ووفق ما يشتهيه الباحثون عن السلطة والتمكين. يؤشّر الإقبال الضعيف للقوات الحاملة للسلاح على صناديق الاقتراع بنسبة لا تتجاوز 12 بالمئة، عن مزاج عام غير متحمس لأول انتخابات بلدية تجري في الجمهورية الثانية منذ عام 2010، مع أن هذه الشريحة من الناخبين كانت على موعد تاريخي لممارسة أحد أرقى حقوق المواطنة للمرة الأولى منذ استقلال البلاد عام 1956. من ناحية أولى، لا يتماشي هذا العزوف مع أهمية اللحظة الانتخابية الفارقة، ومن ناحية أخرى فإن الإحجام المتوقع لباقي المدنيين، عن الاختيار في انتخابات تعدّ الأقرب والأهم للمواطن على درب اللامركزية الفعلية والحكم المحلي، أمر لا يمكن اعتباره صوابا. لكن في الحالتين فإن إحجام الأمنيين قد يفهم على أنه مكسب للنظام الجمهوري وللمؤسسة الأمنية للبقاء على الحياد، في بلد لا يزال يتحسس طريق الديمقراطية واستقلالية المؤسسات بعضها عن بعض، ذلك أن ديمقراطيات عريقة لم تحسم أمرها إلى اليوم بشأن مشاركة هذه المؤسسة في الاستحقاقات الانتخابية. وفي تونس فإن أهمية اللحظة تكمن في الإطار القانوني والتشريعي الجديد الذي سينقل الدوائر البلدية تدريجيا إلى مناطق ذات حكم أشبه بالفيدرالية على غرار نظم الحكم في عدد من الدول الغربية لكن يبقى الأمر معلقا بمدى الالتزام بمعايير الديمقراطية المحلية، إذ لا تكفي القوانين وحدها لضمان الحوكمة في الحكم المحلي. يمنح قانون الجماعات المحلية الذي صادق عليه البرلمان التونسي عشية الانتخابات، صلاحيات مهمة للمجالس البلدية، كما أفرد لها استقلالية أوسع من الناحية الإدارية والمالية عن السلطة المركزية، وفضلا عن ذلك سيصبح رئيس المجلس البلدي وبحكم القانون، متفرغا لعمله البلدي مقابل منح مالية. من شأن هذا أن ينقل النشاط البلدي من حالة التمييع إلى الجدية والبناء ويجعله تحت طائلة المراقبة. في غياب الحكومة وأجهزة رقابية فعالة ومساءلة شعبية فإن الخطر يكمن في إنتاج مجتمعات محلية مسيطرة وذات لون سياسي محدد وللبلديات الحق في أن تمارس صلاحياتها في حدود رقعتها الترابية ويمكنها أن تمارس صلاحياتها الذاتية مع جماعة محلية أخرى بصفة مشتركة كما لها الحق في أن تقيم علاقات تعاون وصداقة مع مثيلاتها في الخارج، بل ويمكنها أيضا أن تدخل في نزاع حول الاختصاص مع السلطة المركزية لدى القضاء. مزايا كثيرة يتضمنها قانون الجماعات المحلية لدعم الحكم التشاركي مع المواطن وترسيخ اللامركزية ومن أجل أداء أفضل للتنمية المحلية، لكن ليس هناك من ضمانات حقيقية سياسيا حول كيفية استثمار تلك المزايا في الاتجاه الصحيح. في وضع اقتصادي متعثر مشابه لتونس فإن أكثر ما كان ينقص الحكومة هو كلفة إضافية تضاف إلى أعباء الانتقال السياسي، إذ تصطدم اللامركزية بعدة تحديات من بينها ضرورة توفر موارد بشرية ومالية هامة وتنظيم إداري متطور ومرافق أخرى قضائية ومالية للاستجابة لمتطلبات الحكم المحلي. وستقوم العلاقة الجديدة بين المركز والجهة على أساس توزيع الاختصاص، وفي ديمقراطية وليدة فإنه لن يكون متاحا في المراحل الأولى تفادي قضايا تنازع الاختصاص لدى المحاكم الإدارية. كما أنه بعيدا عن الشروط الموضوعية فإن ثمة مخاوف أخرى من اتساع الحكم المحلي، ففي غياب الحكومة وأجهزة رقابية فعالة ومساءلة شعبية فإن الخطر يكمن في إنتاج مجتمعات محلية مسيطرة وذات لون سياسي محدّد. وفي السياق التونسي فإن الدوائر البلدية بصلاحياتها الجديدة ربما تكون منفذا لترسيخ قيم مجتمعية ونمط عيش يتفق مع الأجندة الأيديولوجية للأحزاب الفائزة في تلك الدوائر. وبالنتيجة فإن حالة العزوف الجماعية عن الاقتراع ربما تكون لها ارتدادات خطيرة على المدى المتوسط في وقت تستعد فيه أحزاب بعينها لساعة التمكين. البعض لم يتأخر في استحضار المثال الجزائري حينما عبّدت الانتخابات البلدية لجبهة الإنقاذ الإسلامية الفوز بأكثر من نصف الدوائر البلدية و60 بالمئة من الولايات ومن ثم اكتساح الانتخابات التشريعية في المرحلة الأولى قبل أن يتدخل الجيش وتبدأ بعدها العشرية السوداء. تبدو تونس حاليا بعيدة عن تلك السيناريوهات بحكم التوافق السياسي الذي تبناه الفرقاء كاستراتيجية ضرورية للتعايش والبناء وتفادي الفوضى، غير أن السؤال يرتبط بمدى الالتزام بهذا التوافق في دوائر تمثل الشريحة الأكبر على مستوى القاعدة وبعيدة عن سلطة المركز ورقابته.
مشاركة :