عظيم إبراهيم في الشهور الأخيرة، ركزت تغطية وسائل الإعلام العالمية لميانمار على محنة شعب الروهينجا غربيّ البلاد؛ وذلك لأسباب وجيهة: منذ أغسطس/آب 2017، أدت هجمات الجيش الوحشية على هذه الأقلية الإثنية المسلمة، إلى فرار أكثر من 750 ألف شخص- 90% من السكان الروهينجا، الذين يعيشون في ولاية راخين- عبر الحدود إلى بنجلاديش، في ما لا يمكن وصفه إلاّ بأنه حملة إبادة جماعية منسّقة. والأرقام مذهلة ولكن الكراهية ليست جديدة: فالروهينجا، وهم إحدى أكبر المجموعات عديمة الجنسية في العالم، ظلوا منذ زمن طويل هدفاً مفضلاً للاضطهاد من قِبل السلطات المركزية البوذية في البلاد. والروهينجا لهم ديانة مختلفة، ولون بشرة مختلف، ويتكلمون لغة مختلفة عن معظم جيرانهم. إلاّ أن مأساتهم، التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة، حجبت حقيقة أشدّ قتامةً بشأن ميانمار: فالبلاد تخوض غمار إحدى أطول الحروب الأهلية المتعددة الجوانب في العالم. وكل جانب ينشق على أسس عرقية أو دينية- أو كليْهما على الأغلب. وهكذا فإن الهجوم على الروهينجا بعيد عن أن يكون الحملة العسكرية الدائرة الوحيدة ضدّ مجموعة من مجموعات الأقلية. وما أن تتمَّ إزالة الروهينجا من البلاد، حتى يصبح الجيش متفرغاً لإعادة نشر موارده في مكان آخر. وعندما يأتي ذلك الوقت، من المرجح أن تعاني الأقليات الباقية في ميانمار معاملة مماثلة. والعديد من هذه المجموعات، في بؤرة اهتمام الجيش منذ أكثر من نصف قرن. إلاّ أن الاضطهاد القادم سيتجاوز كلّ ما عانته من قبْلُ بكثير. وقد وسّعت الحملة ضدّ الروهينجا قابلية الجيش للتطهير العرقي بشكل جذري، وربما كان الأهمَّ من ذلك، أنها جعلتها أشدّ جرأة فيما يبدو، لأن غالبية السكان يبدو أنهم يدعمون عدوان الجيش ضدّ هذه المجموعة. ولكي نُدرك السبب في استمرار وجود كل هذه الصراعات طوال هذا الوقت، ولماذا تتسارع الآن، لنتأمّلْ القوى الديمغرافية والسياسية المحرِّكة في ميانمار. إن 68% من سكان البلاد من البامار (العرقية البورمية). ويتركز البامار بشكل أساسي حول وادي نهر «إراوادي»، في وسط البلاد الحيوي. وميانمار أيضاً بوذية بنسبة 88%، وتلتزم غالبية تلك المجموعة بعقيدة ثيرافادا المحافظة. ويحيط بوادي ايراوادي، مجموعة من المناطق الحدودية، التي تشكل موطناً لمجموعة كبيرة من الأقليات العرقية والدينية- والتي سعت كلها تقريباً نحو الاستقلال عن الحكومة المركزية في وقت من الأوقات منذ عام 1948، عندما نالت ميانمار، التي كانت تُعرف آنذاك باسم بورما، الاستقلال عن بريطانيا. وتنبع هذه الحركات الانفصالية من حقيقة أن البوذيين الثيرافادا البامار، ظفروا بسيطرة ساحقة على الحكومة والجيش، وسرعان ما دمغوا هويتهم بأنها الهوية الرسمية للدولة. وفي الأعوام التي تلت ذلك، عندما حاولت سلسلة من الدكتاتوريات العسكرية بناء أمة موحَّدة، قامت بشكل منتظم بتهميش وقمع الأقليات الدينية والعرقية، مستخدِمة ضروباً شتّى من الإجراءات الممعنة في الشدة والقسوة. تمّ حرمان مجموعات عديدة من الجنسية، وشهدت تلك المجموعات قراها تُهدَّم، وحقوقها في الزواج تقلَّص. وحدّدت السلطات في ولاية راخين، عدد الأطفال الذين يُسمح للمسلمين الروهينجا بإنجابهم- باثنين في العادة، أي أقل من معدل الاستبدال السكاني (معدل الخصوبة الذي يتيح حلول جيل من السكان محلّ جيل آخر). وفي السنوات القليلة الماضية، تكثفت المناوشات بين الجيش والحركات الانفصالية مرة أخرى، عندما جدّد الجيش عزيمته. وفي عام 2011، أدت المعارك بين جيش ميانمار وجيش استقلال كاتشين شمالي البلاد، إلى نزوح ما يقرُب من 100 ألف شخص من الكاتشين. وما يزال النازحون، بعد سبع سنوات، يعيشون في مخيمات محلية للاجئين، مع احتمالات ضئيلة لإعادة بناء حياتهم. وفي العاميْن الماضيين، شرع الجيش على نحو متزايد في قصف أهداف داخل مخيمات المدنيين وقراهم أو بالقرب منها. وفي ولاية شان الشمالية القريبة، استأنف الجيش وجيش تحرير تانغ الوطني، الأعمال العدائية- استمراراً لصراع يعود تاريخه إلى عام 1963. وعلى مدى السنوات التسع الماضية، أرسل القتال بين الجيش وجيش التحالف الديمقراطي الوطني في ميانمار، التابع لمجموعة كوكانغ العرقية، عشرات الألوف من اللاجئين عبر الحدود إلى الصين. وإلى الجنوب، استهدف الجيش المسيحيين من بين سكان كارين، ما دفع أكثر من 100 ألف لاجئ إلى تايلاند على مدى العقدين المنصرمين. وليست عمليات التشريد تلك، هي وحدها التي تحاكي وضع الروهينجا بصورة قاتمة. فقد أفادت نساء من اثنية الكاشين والكارين، بأن الجيش استخدم الاغتصاب ضدّهن كشكل من أشكال القمع، تماماً مثل عمليات الاغتصاب الجماعي التي أفاد بوقوعها اللاجئون الروهينجا. زميل رفيع المقام في مركز السياسة العالمية في واشنطن. موقع: مجلة «فورين بوليسي».
مشاركة :