صنعاء:«الخليج» تمر أوضاع التعليم في اليمن بسبب الحرب التي فجرها الانقلاب الحوثي على الشرعية بمحنة تاريخية لم يعرفها اليمنيون في تاريخهم الحديث، فقد أصبحت المواسم الدراسية بيضاء، ولم يعد باستطاعة الناشئين التمتع بهذا الحق الإنساني بعدما لحق الخراب والإفلاس بمعظم المدارس، كما لم يعد بإمكان المدرسين القيام بواجبهم بعدما توقفت الرواتب، ليلجأ الكثير منهم إلى البحث عن أعمال أخرى لإعالة أسرهم في وضع اجتماعي يزداد شهرا بعد شهر قسوة، بينما وجد الحوثيون ضالتهم في مئات الآلاف من الطلاب المتسربين من المدارس لتجنيد الآلاف منهم والزج بهم في جبهات القتال، بالتوازي مع تحويل الميليشيا الانقلابية عديد المدارس والمنشآت التعليمية إلى معسكرات وفضاءات للتدريب.وإذا كانت تقارير المنظمات الدولية قد سلطت الكثير من الضوء على واقع أطفال اليمن، فإن شريحة المعلمين تعيش مأساة كبيرة بدأت تحفر عميقا في الوجدان اليمني، إذ ضيعت هذه الحرب الحوثية جيلاً بأكمله من الأطفال كما بددت جيلاً آخر من المعلمين والمدرسين. وبين ثنايا الحرب والمأساة، توجد تفاصيل مؤلمة عن واقع المعلمين الذين يلجأ بعضهم إلى أعمال شاقة في الأسواق وأعمال البناء، إن كان هناك حظ في أعمال كهذه في يمن يتهاوى في أغلب المجالات.أحد المعلمين الضحايا يدعى بجاش محمد العزيزي (48 عاماً) الذي أخفق في مداراة دموعه لمرتين عندما كان يتحدث عن الظروف القاسية التي أجبرت المعلم الذي أمضى نحو 24 عاماً في التدريس، على العمل حمالاً للبضائع في أحد الأسواق بمدينة تعز (260 كلم جنوب صنعاء).في تعز، حيث المحافظة الأكثر كثافة سكانية في اليمن، يفوق فيها عدد المعلمين والمعلمات 46 ألفاً في موازاة نحو900 ألف طالب وطالبة في التعليم الأساسي والثانوي وفقاً لإحصاء حكومي في 2013 - 2014، ذكر أن نسبة 33 في المئة منهم تتركز في المدينة وحدها.شهدت المدينة ومعظم مديرياتها مواجهات مسلحة دامية أدت إلى دمار كبير في البنية التحتية للتعليم، وخسارة عام دراسي كامل في بعض مناطقها عام 2015، ويقدر عدد المتسربين من التعليم من كافة المراحل منذ بدء الانقلاب الحوثي ب100 ألف طالب وطالبة.في هذه المحافظة واجه بجاش العزيزي، المعلم الذي عمل مدرساً للغة العربية منذ تخرجه من الجامعة عام 1995، ظروفاً قاسية وضعته في اختبار عسير أمام التزاماته العائلية طوال فترة الحرب التي دخلت عامها الرابع بلا أفق، وزادت أكثر في العام الأخير مع توقف مصدر عيشه الوحيد (الراتب).المعلم، الذي حفرت معاناة الحرب عميقاً في وجهه، اضطر للنزوح بأسرته هرباً من المواجهات الدامية مرتين منذ بداية الحرب في اتجاهين متعاكسين: من المدينة إلى مسقط رأسه في الريف والعودة إلى المدينة مجدداً بعد وصول المواجهات إلى بلدته «تبيشعة» الواقعة في مديرية جبل حبشي (20 كلم غرب تعز).استمرت ويلات الحرب تلاحقه حتى اللحظة وكانت الضربة القاصمة بالنسبة لرجل يعتمد بشكل كلي على وظيفته كمعلم، الحرمان من مصدر عيشه الوحيد: توقف الراتب، ما اضطره عند نزوحه من القرية إلى المدينة للعمل حمالاً للبضائع على ظهره. يقول بمرارة، إنه يغادر شقته الصغيرة التي استأجرها مؤخراً، بعد صلاة الفجر إلى «حراج العمال»، المكان الذي يتجمع فيه عمال بناء باليومية، لكي ينضم إلى أي فرصة مهما كانت صعبة وتتطلب جهداً عضلياً لم يعتد عليه من قبل، وغالباً ما يعود منها خالي الوفاض، فيولي وجهه «سوق المصلى» وسط مدينة تعز حيث يعمل في نقل البضائع على ظهره من المحلات إلى مركبات الزبائن متى ما لاحت الفرصة.ما من عائد جيد من هكذا عمل فهو بالكاد يفي بالاحتياجات التي تبقي الأسرة على قيد الحياة، لكنه مضطر لأن يعمل «لتأمين لقمة عيش حلال لأطفالي» كما يقول بجاش. يقضي المعلم الذي قلبت الحرب كيانه رأساً على عقب، معظم وقته باحثاً عن العمل لإعالة أسرته، لكنه لا يزال متعلقاً بمهنته التي أحبها، وهو يقوم بتدريس بعض حصص اللغة العربية في مدرسة الزبيري بالمدينة القديمة بتعز، بالتنسيق مع مكتب التربية بالمحافظة، بعد تعذر وصوله إلى مدرسة الكفاح في بلدة الرمادة، بمديرية التعزية القريبة من المدينة، حيث كان يعمل قبل الحرب.حتى الآن مر عام ونصف العام منذ توقفت سلطات الحوثيين في صنعاء عن دفع رواتب بجاش وقرابة 46 ألف معلم في تعز وحدها بالإضافة إلى المعلمين في محافظات الجمهورية الأخرى، في حين لم تستطع الحكومة الشرعية تسليم سوى راتب 3 أشهر فقط.عبد الرحمن أحمد عبده وكيل مدرسة الوحدة الأساسية بمدينة تعز، شاهد على حالات كثيرة، فهناك من يعمل من المعلمين لديه، في بيع القات، (الشجرة التي يمضغها اليمنيون في فترة القيلولة بعد الظهر) وبعضهم يشتغلون في أعمال البناء، وهناك من لجأ للعمل في المطاعم.ويؤيد أحمد البحيري المدير التنفيذي لمركز الإعلام الاقتصادي، ومقره الرئيسي في تعز، معلومات عبد الرحمن، ويقول إن معلمين كثيرين تركوا مهنة التدريس ولجؤوا إلى مهن أخرى كبيع المشتقات النفطية أو العمل على عجلات متنقلة كبائعين جوالين. ويشير البحيري في معرض ذكر الأمثلة، إلى واقعة مقتل المعلم فارس الأثوري في اشتباكات مسلحة بتعز عندما كان يعمل بائعاً متجولاً بعد انقطاع الراتب.في مدرسة «الوحدة» وحدها هناك أكثر من 50 معلماً ومعلمة نازحين خارج المدينة بسبب الحرب، وهناك معلمون يسكنون في المدينة لكنهم لا يقومون بعملهم، ولا يحضرون إلى المدرسة.ويقول عبد الرحمن أحمد عبده إن هناك نقصاً شديداً في عدد المعلمين في المدرسة، بسبب انصرافهم للانشغال بأعمال أخرى لتوفير احتياجات أسرهم بسبب فقدانهم مصدر دخلهم الرئيسي ما يضطر المدرسة إلى القيام بتسوية حيث يتم إبرام اتفاقات شفهية مع المدرسين والتعاون معهم على القبول ب 3 أيام دوام في الأسبوع. المدير التنفيذي لمركز الإعلام التربوي، عايش حكايات كثيرة وعمله في المركز جعله يجزم بأن توقف الراتب وضع المعلمين على رأس من يدفعون الثمن الأكبر، لدرجة أن كثيرين لم يستطيعوا إلحاق أطفالهم بالمدارس بسبب عجزهم عن توفير متطلبات الدراسة.بالنسبة إلى المعلمات في مدرسة الوحدة، فعددهن محدود، وهن أكثر مثابرة من المدرسين، ولا يلجأن للعمل بمهن أخرى تحت ضغط الحاجة المعيشية كما هو الأمر بالنسبة للرجال، لأن مسؤولية الإعالة تقع على عاتق الرجل كما يرجح عبد الرحمن أحمد عبده. لكن شكرية قائد الصهباني، المعلمة التي أحيلت للتقاعد عام 2016 وكانت تعمل خلال الثلاث السنوات الأخيرة من الخدمة، إدارية في مدرسة خالد بن الوليد بمدينة تعز، تؤكد أن عديد المدرسات كانت بدائلهن العمل لدى مدارس القطاع الخاص، مقابل مبالغ بسيطة أقل من نصف رواتبهن. شكرية، المعلمة المتقاعدة، لم ترزق وزوجها بالأولاد، وتعرض منزلها في تلة الدحي بحي المرور لقصف بمقذوفات أثناء المواجهات المسلحة في سبتمبر/أيلول 2015، أدى لاحتراقه بالكامل.بحرقة وألم، تقول شكرية إنها عانت الكثير بسبب انقطاع الراتب، وكانت تواجه مشكلة كبيرة بتوفير أدوية شهرية لزوجها بقيمة 36 ألف ريال (حوالي 70 دولارا) لأكثر من عامين، وهي لا تستطيع أن تمد يدها لأحد. وبالنسبة لها فالراتب كان يمثل لها حياة، رغم عدم كفايته. خلال العام الدراسي 2016 - 2017 أجرى مركز الإعلام التربوي استطلاعاً على 180 مشاركاً من نخبة التربويين في محافظات تعز والحديدة وصنعاء وكانت النتيجة تؤكد على أهمية توفير الرواتب لانتظام العملية التعليمية واستمرارها.وطبقا لتقرير المركز، فقد أكد 92 في المئة من المشاركين أنه لا يمكنهم العودة إلى المدرسة وبدء عام دراسي جديد ما لم يتم صرف رواتبهم، فيما قال 8 في المئة منهم إﻥ ﺍﻟﻤﺴﺆﻭﻟﻴﺔ الأﺧﻼﻗﻴﺔ ﺗﺤﺘﻢ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﻮﺍﺻﻠﺔ ﻋﻤﻠﻬﻢ.جرّاء هذه المشكلة انخفضت ساعات الدراسة بشكل كبير وبالكاد يصل الجدول الأسبوعي إلى النصف مقارنة بما كانت عليه الأمور قبل الحرب وأثناء تسليم مرتبات المعلمين والمعلمات وفي بعض المدارس خصوصاً في الأرياف يكاد التعليم أن يتوقف تماماً.في العام الماضي، بسبب انقطاع المرتبات، لم يتجاوز العام الدراسي بكامله في المدينة فترة ستة أشهر، بدلاً من تسعة، وانتهى العام وجزء كبير من المنهج الدراسي لم يتم تدريسه للطلاب.في مدرسة «الوحدة» مثلاً، لا تزيد الحصص اليومية هذا العام على أربع، بمعدل 20 حصة، وكانت سبعاً قبل الحرب، بمعدل 35 حصة أسبوعياً. ويقول وكيل المدرسة إن المعلمين لا يستطيعون القيام بتغطية المنهج بشكل كامل ويتم التركيز على الأهم، وهذا العام التزمت مدارس تعز عموماً بأن يكون العام الدراسي 8 أشهر التزاما بما قررته وزارة التربية والتعليم في عدن الخاضعة للحكومة الشرعية.أما المدير التنفيذي لمركز الإعلام التربوي فيقول إن الطلبة في المدارس الحكومية بتعز لم يتلقوا خلال الفصل الدراسي الأول أكثر من ثلث المنهج الدراسي. ويرى أحمد البحيري أن ضغوط الحرب وتوقف الراتب والضغوط الأسرية وحالة النزوح والإضرابات وتقليص الحصص الدراسية «جعلت المعلمين غير قادرين فعليا على تقديم شيء للطلبة، مع تدنٍ في التحصيل العلمي». في التقرير الذي صدر مؤخرا الخاص باليمن «خارج المدرسة»، أكدت منظمة اليونيسف التابعة للأمم المتحدة أنه «لم يتم صرف رواتب الكوادر التعليمية العاملة في ثلاثة أرباع المدارس اليمنية منذ أكثر من عام مما جعل تعليم قرابة 4.5 مليون طفل على المحك».وقالت ميريتشيل ريلاينو ممثلة «اليونيسف» في اليمن «يواجه جيل كامل من الأطفال في اليمن مستقبلاً غامضاً بسبب محدودية أو عدم إمكانية حصولهم على التعليم»، مضيفةً: «حتى أولئك الذين ينتظمون في المدارس لا يحصلون على التعليم الجيد».ومنذ استفحال الانقلاب الحوثي في أوائل 2015 تسرب ما يقرب من نصف مليون طفل من المدارس ليصل إجمالي عدد الأطفال خارج المدرسة إلى مليوني طفل وفقاً لتقديرات «اليونيسف».وفي الوقت الذي أكدت فيه المنظمة الدولية على ضرورة أن تعمل السلطات التعليمية في جميع أنحاء اليمن جنباً إلى جنب والسعي لإيجاد حل فوري لدفع رواتب كافة المعلمين والمعلمات والعاملين في سلك التعليم حتى يتمكن الأطفال من متابعة دراستهم، ناشدت المجتمع الدولي والمانحين وشركاء التنمية دعم دفع حوافز للمعلمين والمعلمات والبحث عن حلول طويلة المدى لأزمة الرواتب في اليمن مع الاستمرار في دعم النظام التعليمي. مدارس صنعاء.. فضاءات للكراهية بأمر الحوثي عمدت ميليشيا الحوثي الانقلابية في الأشهر الماضية، وتحت وطأة هزائمها المتوالية، إلى تعطيل العملية التعليمية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، من خلال استخدام الجامعات والمدارس ميادين لإقامة أنشطتها الثقافية ومناسباتها الطائفية، فضلاً عن اتخاذها فضاء لترويج الكراهية بشكل شبه يومي، وفرضها بالقوة على المدرسين والطلاب.فقد أصدرت ميليشيات الحوثي، منتصف الشهر الماضي، تعاميم للجامعات والمدارس، في صنعاء والمناطق الأخرى الخاضعة لسيطرتها، تلزمها بإقامة سلسلة فعاليات إحياءً لذكرى مؤسس الجماعة «حسين بدر الدين الحوثي». وأكدت مصادر أن وزارة التربية الخاضعة لسيطرة الميليشيات، وعلى رأسها شقيق زعيم الجماعة يحيى الحوثي، وجّهت المدارس بإقامة فعاليات تمجّد الجماعة، وتقدّس مؤسسها «حسين الحوثي» في جميع مدارس صنعاء والمناطق الأخرى.وبحسب المصادر، فإن مليشيات الحوثي الانقلابية تستغل مثل هذه المناسبات لبث سمومها وأفكارها الطائفية في عقول الطلاب خصوصاً منتسبي الصفوف الابتدائية، كما تحاول من خلال خطاباتها التي تطفح بالعنف والكراهية التأثير في عقول الشباب وتحاول الزج بهم في جبهات القتال. ولم تكتف الميليشيات بتعطيل المدارس والجامعات وإيقاف العملية التعليمية لأيام، وإقامة أنشطتها وفعالياتها الطائفية، بل هددت بمعاقبة أي معلم يقف عائقاً أمام إقامتها، أو يتخلف عن المشاركة فيها.
مشاركة :