كتاب "نظرية العشق عند العرب".. العاشق المتفاني شهيدا

  • 5/5/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يبقى العشق عند العرب، حيث الصحراء وترك الأطلال، بعد طوي الخيام والرَّحيل، له خصوصيته، وهناك مَن كوّن منه ما أُطلق عليه اسم نظرية. هذا ما ورد في كتاب الباحثة الألمانية لويس غفن “نظرية العشق عند العرب”، والذي ترجمه إلى العربية الكاتب والمترجم العراقي نجم مصطفى عبدالله. ما ورد في كتاب غفن هو جمع شمل ما لم يتم جمعه في شأن العشق عربياً، وصياغة فلسفة العشق العذري التي أنتجتها ظروف الصحراء الاجتماعية، ولم ير الإسلام فيها ما يخالف أعرافه في العلاقة بين المرأة والرجل، وإن كان بعض الفقهاء اعتبر الذوبان في الحب لا يجوز لغير الله تعالى والدين. وقد انتقلت تلك الفلسفة كعرف اجتماعي إلى مناطق أخرى، فالآداب التي تركتها الحضارات القديمة في المنطقة تشير إلى علاقة أخرى بين الجنسين، ورغم سعة المصادر ووضوح المصطلحات المستخدمة في الكتابة، فإنه لم يكشف عن غموض السلوك العربي في الحب، فهو المحلل المحرم، والمباح الممتنع، والسهل الصعب. غاصت الباحثة في المؤلفات العربية الإسلامية لتصل من خلالها، وبعد دراسة مستفيضة، إلى القول بوجود نظرية عربية في العشق، معتمدة على الأفكار التي وردت فيها تفسيرات المؤلفين لكلمة عشق ومرادفاتها، وحالات العشاق النفسية. لكن الباحثة لم تتوصل إلى منطوق واضح لتلك النظرية، كما هو الحال في النظرية الأفلاطونية في الحب والتي وردت عبر فلسفة النفس عند أفلاطون. قالت الباحثة الألمانية لويس غفن بالعامل الديني والأخلاقي الذي يجمع بين المؤلفات العربية الإسلامية ليشكل مع المصير المأساوي نظرية عشق. من تلك المؤلفات رسالتا عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ) “في العشق والنساء” و”القيان”. كتاب "الزهرة" الذي يجمع الكثير من الشعر والنثر المسجوع في شأن الحب، هو أول كتاب في نظرية الحب، مع الإشارة إلى تأثر صاحبه بالتراث الإغريقي في رسالته الأولى ناقش الجاحظ معنى العشق ككلمة ومصطلح بمعنى الحب العاطفي المضطرم، أي أن العشق شعور تثيره النساء في نفوس الرجال. وهذه ميزة أخرى في مفهوم العشق العربي، إنه يقتصر على الرجال دون النساء، فالمطلوب من المرأة أن تكتم ميلها العاطفي وتتظاهر بعدم الاكتراث، مع أن أكثر العشاق نسبوا إلى معشوقاتهم اللواتي تزوجن غيرهم. اختلافات في نظرة العرب للعشق تزيد المؤلفة في تعليلها على ما قصده الجاحظ في رسالة “القيان” بالقول بالاختلاف الفكري أو الكلامي بين الجاحظ المعتزلي وما عرّفتهم المعتزلة بالحشوية من أهل الحديث. فحسب ما ورد في كتاب “نظرية العشق” كان الجاحظ “في أعين هؤلاء من الفاسقين والآثمين، لأنهم ملكوا وتمتعوا بالمغنيات والراقصات من القيان، وكان الجاحظ يدافع عن إباحة مثل هذه الملذات. وأخذ على عاتقه إظهار غباء نظرة أعدائه متعرضاً للتناقض بين ما يطلبونه من معايير السلوك والسلوك المعروف لأكثر أوائل المسلمين المقتدى بهم، عندما كانت الأمور تتعلق بالنساء”. اللافت للنظر أن الجاحظ الذي كتب عن العشق والنساء وعن لذة العلاقة بالقيان كان من المترددين في العلاقة مع المرأة، فهو لم يتزوج طيلة حياته، ويؤكد أنه لم يتعرض لموقف محرك كما حدث له مع امرأتين: واحدة ذهبت به إلى الصائغ لينقش لها خاتماً على صورة شيطان، فاعتذر لها بأنه لم ير الشيطان حتى ينقش لها صورته. وأخرى رفضت دعوته لتناول الطعام بتهكم، ولعل دمامة صورته وانشغاله بالتأليف وراء نأيه عن العلاقة بالجنس الآخر. كذلك تستعرض الباحثة لويس غفن كتبا أخرى تختلف عن رسالتي الجاحظ برفضها للعشق أو قبولها بالعشق العذري فقط، فمن هؤلاء المؤلفين كاتب مجهول، اقتبس منه أحمد بن الطيب السرخسي، فهو على حد قول المؤلفة “يحدد لنا البشر في جمل قليلة بلغة الروح والنفس والعقل والحواس والخيال والذاكرة”. وحسب هذا الرأي فإن العشق لا يكون إلا للفلاسفة وعلماء الدين والمتصوفة، المتساوين بالنفس الناطقة. وفي كتاب “الزهرة” أو “الزهراء” للقاضي محمد بن داود الأصفهاني ورد مصطلح الحب “إنه شيء يختص به قوم برقة طباعهم، وتآلف أرواحهم، فمن كان مثلهم فهو يعذرهم، ومن خرج عن حدهم هان قوله”. كتاب غفن جمع شمل ما لم يتم جمعه في شأن العشق عربياً، وصياغة فلسفة العشق العذري التي أنتجتها ظروف الصحراء الاجتماعية، ولم ير الإسلام فيها ما يخالف أعرافه كتاب غفن جمع شمل ما لم يتم جمعه في شأن العشق عربياً، وصياغة فلسفة العشق العذري التي أنتجتها ظروف الصحراء الاجتماعية، ولم ير الإسلام فيها ما يخالف أعرافه إن رقة الطبع التي علل بها الأصفهاني علاقة الحب قادته إلى التعلق بصديقه إلى حد المرض، وبعد تقصي حياته من قبل المؤلفة وجدت أنه “أصبح شهيد الحب النقي العنيف إلى صديقه”. تعتقد المؤلفة بأن كتاب “الزهرة” الذي يجمع الكثير من الشعر والنثر المسجوع في شأن الحب، هو أول كتاب في نظرية الحب، مع إشارة منها إلى تأثر صاحبه بالتراث الإغريقي، ودليلها على ذلك الاقتباسات التي وردت في الكتاب من مؤلفات أفلاطون وبطليموس وطبيب يوناني مجهول، بمعنى أنه ليس هناك نظرية عشق عربية خالصة، مع أن النظرية المزعومة انعكاس لحالة عربية غير متكررة في أماكن أخرى. ومن المعروف أن أفكار فلاسفة الإغريق أخذت صيغ النظريات سواء كان ذلك في الوجود أو المجتمع أو النفس الإنسانية، فتلك الأفكار كانت متماسكة وشاملة ومنطقية إلى حد ما في زمانها. ففي كتابه “اعتلال القلوب” يرفض أبوبكر الخرائطي الحب مؤيدا بمجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة والروايات والأشعار. وتعلل المؤلفة ذلك الرفض بورع الخرائطي وتدينه فقد كان من رجال الدين البارزين. وهذا لم يكن سبباً كافيا في تحريم الحب، فهناك غير الخرائطي من المؤلفين الورعين يرتضون الحب بشروط، كذلك ذم ابن الجوزي العشق في كتابه المعروف بـ”ذم الهوى”، محذرا من أخطاره، ومغبة الانحراف نحو الشهوة. وكان سبب تأليفه ذلك الكتاب الشكوى المؤلفة لأحد الذين عذبهم العشق وجاء يسأله الدواء لما ابتلي فيه من وجد وحرقة، ولعله اختلق مثل ذلك الحدث، حتى يؤكد واقعية تأليفه وزيادة تأثيره. تحدث ابن الجوزي في البداية، عن طبيعة الهوى، ولماذا يستحق الذم. متناولا طبيعة العقل وتفوقه على هوى النفس. وفصل في كتابه المذكور بين الهوى والعشق. فالأخير هو درجة عليا من الهوى، وإن كان عشقا عذريا. وعلى رغم وضوح فكرة ابن الجوزي في العلاقة بين الهوى والعشق، فإن مؤلفة كتاب “نظرية العشق عند العرب” ترى أنه لم يتمكن من التوفيق بين درجتي الحب: الهوى والعشق. وكان من المؤلفات المهمة التي تعتبرها المؤلفة أساسا في وجود نظرية عشق عربية “طوق الحمامة في الألفة والألاّف” لابن حزم الأندلسي. لا يخرج ابن حزم في كتابه المذكور عن المؤلفات السابقة في التأكيد على الجانب المأساوي في حياة المحبين، بل أكثر من أخبار معاصريه من الذين تعرف على تجاربهم العاطفية القاسية. ومن الكتب الأخرى التي استعرضتها المؤلفة في العشق والعشاق كتاب “روضة العاشق ونزهة النامق” لأحمد الكسائي، وكتاب “منازل الأحباب ومنارة الألباب” لشهاب الدين محمود، و”الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين” وكتاب “روضة المحبين ونزهة المشتاقين” لابن قيم الجوزية وغيرها. تؤكد المؤلفة، في صياغة نظرية عشق عربية، على الطابع الديني والأخلاقي لتلك المؤلفات، فقد دفع ذلك بعض المؤلفين إلى تحريم العشق، بينما أكد آخرون صونه من الشهوات، لكن الأمر يبدو مختلفاً بالنسبة إلى مؤلفات الجاحظ السابقة الذكر، فهو لم يكن من رجال الدين ولا من الواعظين أو القضاة، وما كتبه في رسالتيه عبارة عن أدب في الحب يخلو من التحليل والتحريم. لكثرة الشبه بين مؤلفات العشق، ترى المؤلفة أن الاختلافات بينها لا تعدو كونها آراء ثانوية، ورد ذلك بسبب استعمال أو تفسير بعض الآيات والأحاديث. أما الشعر، الذي يكثر عادة في قصص العشاق، فهو بالنسبة إلى نظرية العشق عن العرب “أداة لتصوير الآراء والأفكار بصورة ملائمة ولتعزيز أقوال المؤلف للتعبير عن آرائه بصورة بارعة ومهذبة”. والظاهر أن أغلب المؤلفين كانوا يحبذون الاستشهاد بالشعر الجاهلي والأموي، والأمر قد يعود إلى جزالة ذلك الشعر، وما يمثله من شاهد تاريخي لرواية المؤلف. تقول المؤلفة في مجال استعمال الشعر “إن للشعر فتنة وسحرا على المؤلفين، بحيث لا يتمكن أولئك الذين يكتبون في اللاهوت الجدلي العقائدي ضد الحب العاطفي مقاومة اقتباس الشعر لعدة صفحات، ذلك الشعر الذي يبدو في تصويره الفاتن لأفكار وأحاسيس الشاعر العاشق أنه يعمل ضد ما يريد المؤلف التعبير عنه في نهاية الأمر”. من أصول نظرية العشق العربية الحاجز بين المحبوب والمحبوبة، بمعنى أن الوصال يطفئ جذوة العشق أو الشوق العارم تجاه الآخر، فيفرغه من المعاناة المأساة في حكايات العشق من مكونات مؤلفات العشق الأخرى، إضافة إلى النص الديني والشعر، تأتي الحكاية أو القصة الفنية كمادة تاريخية وروائية. وترى المؤلفة في وظيفة الحكايات والقصص الوظيفة نفسها التي يؤديها الشعر لأنهما “مرجع التصييغ النظري والمواد الموضحة لها”. كذلك استلهم المؤلفون في مجال العشق آراء الفلاسفة الأطباء في توضيح ماهية العشق بشكل نظري دقيق وأسبابه وتطوره وعلاماته. فمن المعروف أن الطبيب ابن سينا عدّ العشق حالة نفسية شديدة، يحتاج المصاب بها إلى معالجة طبية، وقد ضرب مثلاً في كتابه “الشفاء” عن حالة شاب من أبناء الذوات طلب منه معالجته، وقد استدل إلى حبيبته التي يخشى النطق باسمها من خلال مراقبة نبضه، وعندها وجد الدواء لدائه. من مصادر المؤلفة في وجود نظرية عشق عند العرب أيضاً المؤلفات التي اهتمت بأسماء الحب وضروبه، فهذه الأسماء عبّرت عن حالة الحب ودرجته، فقد ذكر المرزباني حوالي ثمانين اسما. وترى المؤلفة أن آراء ابن قيم الجوزية “تستغرق كلية في النظرية وعلم النفس”، فقد اعتبر الصفاء أصل مصطلح الحب “لأن العرب تقول الصفاء بياض الأسنان”، ومعروف عن الصفاء أنه اسم من أسماء الصخور البيضاء أو المصقولة جداً، والصفاء له علاقة بالحباب “وهو ما يعلو الماء عند المطر الشديد”. ويرتبط معنى الحب تجاه المحبوب بالغليان. كذلك يشتق الحب عند ابن قيم الجوزية من اللزوم والثبات، فيقال: أحب البعير أي إذ برك ولم يقم، فالحب يلزم قلب المحبوب. أو أنه مأخوذ من القلق والاضطراب، ومنه سمي القرط حباً لقلقه في الأذن. المنطلق الديني دفع بعض المؤلفين المسلمين إلى تحريم العشق المنطلق الديني دفع بعض المؤلفين المسلمين إلى تحريم العشق ومن هذه المعاني وغيرها تتوصل المؤلفة إلى ارتباط معنى الحب بالتعاسة، فكثير من معانيه يدل على الألم والحزن والارتباك والمرض، وتطغى دلالة التعاسة على دلالة المسرة عن لقاء المحبين، أو النشوة بعد الفراق واليأس من اللقاء. في إطلاق لقب الشهيد على العاشق المتفاني تتوغل المؤلفة في تاريخ فكرة الشهيد التي تعود بالأصل، حسب رأيها، إلى الشرق القديم والتي وصلته من خلال التعاليم الهيلينية واليهودية المتهلينة والمسيحية ثم الإسلام. وقد أطلق لقب الشهيد على المقتولين من المحاربين أو الفلاسفة الأبطال، ثم أطلق اللقب المذكور على المتفانين في سبيل المعتقد الديني أو الفكري. وأصل إطلاق لقب الشهيد على العاشق أو المحب هو التزام العفة في كبح العواطف حتى النفس الأخير، دفاعاً عن العذرية التي تعد من أخلاق القبيلة السامية، بمعنى إضعاف الشهوة الجسدية التي تفسد الحب ومدلوله الاجتماعي آنذاك. وتضيف المؤلفة أن الحب الطاهر والملتهب لم يكن ضد تعاليم الإسلام، فالمشترك في الشهادة من أجل الدين أو العشق هو لقاء الموت بعنف في تحمل أهوال العذاب والحرمان. وفي هذا المجال تنقل المؤلفة فكرة شهيد العشق في التراث الإسلامي عن الزرقاني في تعليقه على كتاب “الموطأ” للإمام مالك بن أنس، والذي يقول فيه “إن بعض العلماء كانوا يرون أنه لما كان مثل هذا النوع من الموت مؤلماً جدا، فإن الله يرى في رحمته لعباده المسلمين بأن يعدّ ذلك الموت كفارة لذنوب المتوفين، وكإضافة إلى أجرهم ليجعلهم يصلون إلى مقام الشهداء”. فمن أصول نظرية العشق العربية الحاجز بين المحبوب والمحبوبة، بمعنى أن الوصال يطفئ جذوة العشق أو الشوق العارم تجاه الآخر، فيفرغه من المعاناة. فأشهر قصص العشق تلك التي كانت تنتهي بالجنون أو الموت على رغم أن الحبيبة قريبة من الحبيب كابنة عم أو ابنة خال.

مشاركة :