«لقد طالعت بدقة الأديان القديمة والجديدة وخرجت بنتيجة هي أنّ الإسلام هو الدين السماوي والحقيقي، وأنّ الكتاب السماوي لهذا الدين وهو «القرآن الكريم» ضمّ كل الاحتياجات المادية والمعنوية للإنسان ويقوده نحو الكمالات الأخلاقية والروحية» (العالم الإيطالي كونت إدوارد كيوجا) «شكرًا سيدي»، وبمناسبة الكمالات التي تُحيل الحياة إلى جنة الله على الأرض من خلال تحقق الأمن النفسي الذي يتسرب من تعاليم القرآن، فإن موضوعنا اليوم يتحدث عن روح الكمالات الأخلاقية متمثلة في العهد والوعد والعقد والميثاق. العهد.. من بطن اللسان العربي يعني «الاحتفاظ بالشيء وإحداث العهد به»، وبين دفتي المصحف تكررت ست وأربعين مرة «الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويُفسدون في الأرض أُولئك هم الخاسرون» (البقرة: 27)، وهذا أول ما بدأ به التنزيل الحكيم من ذكر العهد، وقوله «والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون» (المعارج: 32)، آخر ما نزل في القرآن من ذكر العهد وما بينها من أمثلة كثيرة، فإن المعنى بقي واحدًا لم يتغير وهو الاحتفاظ بالشيء وعدم التفريط به، فالعهد التزام، وسُمي كذلك لوجوب المحافظة عليه «ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مُبين» (يس: 60)، ومن هذا المفهوم الدقيق اشتُقت «ولاية العهد» والمعاهدة. العقد عند ابن فارس يدل على الشد والوثوق، وجمع العقد أعقاد وعقود، والثانية أكثر شيوعًا وتداولاً وتناولها الكتاب الكريم كمفردة في سبعة مواقع «ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله» (البقرة: 235)، وهذا أول ورود قرآني للمفردة، وكان آخرها في سورة الناس «من شر النفاثات في العُقد»، والعقود كثيرة ومتنوعة بحسب مجالات العقد، فمنها عقد النكاح وعقد البيع وعقد العمل وعقد الراية وكلها لا تخرج عن معنى الوثوق والشد، وأسهب السلف فقهيا في كل باب من أبواب العقود بهدف التوضيح والتفصيل لتسهيل شؤون الناس في كل معاملاتهم اليومية. الوعد هو ما يقطعه الفرد على نفسه من التزام بالقيام بأمر ما عملا أو قولا، وسواء كان وعدًا أو وعيدًا، والوعد ومشتقاته كثيرة في القرآن بلغت مائة وخمسين، «وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثمّ اتخذتم العجل من بعده وانتم ظالمون» (البقرة: 51)، «والسماء ذات البروج واليوم الموعود»، وقوله تعالى: «الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم» (البقرة: 268)، ومن سورة طه الآية 86 نختم الاستشهاد القرآني «قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنا»، فوعد الله لا يكون إلا حسنا ويقابله الوعيد في حالة العذاب أو الشر وهذا موكول بعمل الإنسان، ويجب أن نتوقف عند ارتباط الزمان والمكان بكل المفردات السابقة كعلامة فارقة بينها، فمثلاً «ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين» الظرف الزماني واضح في هذه الآية وأشباهه كثير في الكتاب الكريم، والظرف المكاني يتضح في الآية 80 من سورة طه «يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى». والمعاهدات المُبرمة قد تشمل كلا من الزمان والمكان وقد لا تشمل، ومثاله قول الله تعالى «إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يُظاهروا عليكم فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين». الميثاق من الأصل «وثق» والتي تعني الربط بإحكام وهي مفردة وردت في محكم التنزيل أربعا وثلاثين مرة «وما يُضل به إلا الفاسقين * الذين يُنقضون عهد الله من بعد ميثاقه» (البقرة: 27-26)، وقوله تعالى «ولا يوثق وثاقه أحد» (الفجر: 26)، ويعتبر الميثاق قاسما مشتركا بين المفردات الأربعة محل البحث، غير أن لكل واحد منها معنى فرعيًّا يختص به من دون غيره، ففي العقد بنود مادية لا تدخل في بنود الميثاق، وعقد النكاح وميثاق الزوجية مثال على ذلك، ففي الأول ينص على الصداق والمؤجل و... أما ميثاق الزوجية فينص على التواد والتراحم والسكينة. القرآن يُميز بين نوعين من الميثاق: الأول هو ميثاق تكويني رباني حتمي قاهر لا حيلة للإنسان فيه ذلك هو ميثاق الربوبية، فالله هو رب الناس شاءوا أم أبوا، وهذا الميثاق يمتاز بالثبوت لا يخضع لتغيرات الزمان والمكان لأن الله رب العالمين سرمدي أبدي وفي كل بقاع الأرض «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا» (الأعراف: 172)، والنوع الثاني ميثاق تكليفي إلهي «وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا * ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما» (الأحزاب: 7-8). تلك المفردات التي وردت آنفًا تستلزم كل منها صفة تختص بها من دون غيرها بناء على التطبيق السلبي أي عدم الالتزام، وهذا يدخل ضمن دقة القرآن الكريم واللغة العربية، إلا الميثاق والعهد نستعمل معهما النقض، وكذلك الوعد يستوجب الخلف «أخلف» أما العقد يناسبها أخلّ واليمين تستدعي الحنث. والهدي النبوي كثيرًا ما ركز على الجوانب الأخلاقية بشكل عام وضمنها الوعد والعهد والميثاق، وأعطاها ما تستحق من اهتمام لما لها من أثر مباشر على علاقات الناس ببعضهم وتماسك المجتمع ومنعته وحصانته من تغول الآفات وتشرذم النظام الاجتماعي الذي حرص الرسول على توقيته وبنائه بناءً سليما منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى المدينة المنورة وشروعه (عليه السلام) ببناء الدولة، وتمثلت أُولى خطواته بعد بناء المسجد بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والتي كانت ملحمة إنسانية في التلاحم والإيثار ستظل الأجيال المتعاقبة تذكرها بكثير من الفخر والاعتزاز. عاطف الصبيحي
مشاركة :