كعادتها، وبكامل حلّتها وأناقتها، كانت «دبي» على موعدٍ في مطلع أبريل 2018 مع محفلها السنوي المعاصر «منتدى الإعلام الرقمي»، على منصّة جمعت سفراء الإعلام وروّاده بجميع مجالاته، البصريّ والمسموع والمقروء. لم يمض على انطلاقة المنتدى سوى بضعة عشرَ عاماً، حيث كان يتناول في بداية رحلته زواياً تقليدية في واقع الإعلام وتحدياته، وما ان يعتلي المتحدّث المنصّة ويبدأ التنظير والتأويل حتى يلتهم الوقت بنهم، وتخار قوى المشاركين تعباً ونصباً، فيلوذ بعضهم بالفرار إلى فسحة من الراحة يلتقط فيها أنفاسه. ما بين الأمس واليوم قطع المنتدى مراحل من التطوّر والمواكبة ومحاكاة لغة العصر، اليومَ وفي نسخته السابعة عشرة يرتدي المنتدى ثوباً جديداً ويسير على نهجٍ جديد، وخرج علينا بإطلالة استباقية مستشرفاً مستقبل الإعلام وما سيؤول إليه حاله ومآله. دارت بأروقة المنتدى وعلى مدار يومين العديد من الجلسات الحوارية الغنيّة بمحتواها، والحلقات النقاشية الثرية بموضوعاتها، والمنصات التواصلية والتعارفية التي أتاحت للمشاركين أن يكونوا على تماسّ مباشر بحاجاتهم المعرفية الخاصّة ولينالوا من الأطروحات أروعها ومن الحلول أنجعها. اليوم وعلى وقعِ ختام سيمفونية المنتدى المتكاملة إتقاناً وروعةً وجمالاً وبهاءً في عامه الحالي، نرصد أربع وقفاتٍ تستحقّ الإشادة: أولاً: غاب الكلام والإسهاب والإطناب ولم يمتلك المتحدث من الرصيد الزمني سوى (20) دقيقة ليدلو بأفضل ما يحتويه دلوه في فضاءات الإعلام، ولأن الاقتصاد المعرفي يجعل الناس يتوجّهون فوراً ولاشعوريا إلى بيت القصيد في القول والفعل والعرض، جاءت الحوارات والمناقشات موضوعية ومباشرة. ثانياً: كان المنتدى وبحق الرئة النابضة والمرآة العاكسة لتحدياتنا الإعلامية وطموحاتنا المستقبلية بين ثورة صناعية رابعة رقمية وذكية حاضرة بقوة ما تملك من أدوات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، والمنصات الرقميّة وبين الإصدارات الإعلامية التقليدية التي تصارع من أجل البقاء في عالم لا يعرف سوى الابتكار الإعلامي والاستباقية الذكية، والفضاءات الإلكترونية العابرة للقارات بلمسة واحدة، إن لم تكن بهسمة واحدة. ثالثا: تبارى المتحدثون في أطروحات تستحق التأمل والتوقف والتحليل، فقد انطلق المنتدى بجلسة متميزة للإعلامي والكاتب المصري ياسر عبد العزيز، حلق فيها مع الحضور في التحولات الإعلامية القادمة، وقدم أمثلة واقعية على ما أفرزته منصات التواصل الاجتماعي من تغيير تام وغير مشهود فى المشهد الإعلامي. والحقيقة كانت من أكثر الجلسات واقعية واستشرافية، كما تحدث الكاتب السعودي حسين شبكشي عن أزمة الإعلام العربي بمجهر الطبيب الإعلامي الحاذق، وقدم أشعة رنين مغناطيسي بعين موضوعية لأزمة «الهوية» الإعلامية العربية وما يحيط بها من تشوهات تجعلها مجرّد منصّاتٍ إعلامية ناطقةٍ باللغة العربية أكثر منها إعلاماً عربياً مؤسسياً له هويته وثوابته وقواعده. ولا يمكن الحديث عن منصات المنتدى من دون التوقف أمام سؤال محوري طرحه الدكتور مأمون فندي مدير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية فى لندن: هل الخطاب الإعلامي العربي بشأن الشرق الأوسط بحاجة إلى تجديد؟ وهل المفردات التي قد تم ويتم تداولها لها مدلول معلوم الأبعاد والأثر لدى المتلقي مثل «صفقة القرن» و«صراع الحضارات» وغيرها؟ وأخيرا هل الإعلام العربي فى الشرق الأوسط له هوية تماهي وتواكب التعريفات العالمية لمفهوم الشرق الأوسط؟ وكلها أسئلة تحتاج وقفات وإجابات من كل مسؤول عربي يسعى لتطوير الخطاب الإعلاميّ الذي يعكس الصورة الواقعيّة والمشرّفة والمؤثرة عن بلده. رابعاً: خصص المنتدي أكثر من جلسة للحديث عن التشكيك في الحقيقة والوهم الإعلامي وصناعة التحريض والتضليل، وكلها موضوعات مهمة وشائكة في ضوء ما تعيشه منطقتنا من خصومة معرفية مع الحقيقة وعدم الموثوقية في الكثير مما يقدم، والكسل المعرفي فى متابعة المصدر والوقوف على الخبر والتمحيص في تعدد أدواته وصوره. وأكثر ما أثرى المنتدى في هذا الجانب هو أطروحة لم تتجاوز عشرين دقيقة للكاتب والناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذامي بعنوانها الملهم «لماذا الخوف؟»، أكد خلالها أن السردية البصرية تحتل أهمية الآن أكثر من السردية الكتابية، وأن الثقافة لا تغزو أحداً، بل نحن من نغزوها، والأهم يجب أن يتم تبني مفهوم جديد للمواطنة العربية الإيجابية التي تواكب تحديات اليوم وتخرج من عباءة الأنا لتتسع لمواطنة عربية خليجية شرق أوسطية أمام الشلال المنهمر من التحولات بالمنطقة. يتملكك شعور خاص بنهاية المنتدى ويزدحم عقلك بزخم أسئلة عديدة تحتاج إلى إجابات ووقفات: هل نحن قادرون على مواكبة العصر الرقمي الإعلامي؟ هل المفاضلة بين الورقي التقليدي والرقمي المعاصر أضحى حتمياَ؟ هل تستطيع أمتنا العربية في هذا الفضاء الإلكتروني الكثيف والمخيف أن يكون لها «محتوى» يتجاوز أزمتنا في الشكل والمضمون والهزل الذي أصابنا وجعلنا أمة حاضرة غائبة؟ هل وزارات الإعلام والمجالس والهيئات الوطنية والقومية قادرة على استيعاب لغة وأدوات العصر الرقمي وما هو آت، أم أن مربع التشبّث والتفادي والمخاصمة أسهل من المواجهة والتحديث والمواكبة؟ { خبير دولي في التميز المؤسسي والتحكيم التجاري emadkna@gmail.com
مشاركة :