«حياةُ الكتابة»... شهادات الروائيين عن طبخة النص الأدبي

  • 5/6/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

خلافاً لما طالبَ به دعاةُ المنهجُ البنيوي بضرورة عزل النص الأدبي عن المؤثرات الخارجية ودراسته بوصفه وحدة لغوية، بل مضوا أبعد عندما أعلنوا موت المؤلف بمعنى أن عملية القراءة والحفر في طبقات النص يجبُ أن تكون خارج محور المُنتِج... فإنَّ القُراء يتطلعون لمعرفة طبخة النص الأدبي وشخصية صاحبه، وذلك يعني استحالة الالتزام بالمنهج البنيوي، خصوصاً بالنسبة إلى من لا تَهمه التعقيدات النظرية بقدر ما يُفتشُ عن عنصر المُتعة في العالم الموازي. وما انفكت حياة الكُتاب والمبدعين تشكل جزءاً أساسياً من اهتمامات القارئ، وكثيراً ما يكون الردُ على سؤال حول حياة الروائي أنَّ سيرته متناثرة في أعماله وكل شخصية روائية تُمثل جانباً من حياته. من المعلوم أن نواة بعض الأعمال الأدبية ليست إلا تجارب حياتية لكاتبها في القالب السردي مثل «المقامر» لدويستويفسكي، وما قدمه كل من تشارلز بوكوفسكي ومحمد شكري في الأعمال الروائية لا يَخرجُ من هذا الإطار أيضاً. زدْ على ذلك أن الدافع وراء فعل الكتابة هو ما يريدُ القارئ معرفته، خصوصاً لدى من احترفوا صنعة الرواية. من هنا تأتي أهمية كتاب «حياة الكتابة» الصادر حديثاً من «دار مسيكلياني- تونس»، ويضمُ مقالات نخبة من الروائيين الذين يستعيدون جانباً من اشتغالاتهم في مجال الكتابة، مشيرين إلى البدايات والقدر الذي قادهم نحو هذا المصير. تلفت الانتباه أكثر في هذا السياق شهادتا الروائي الياباني هاروكي موراكامي والروائية التشيلية إيزابيل الليندي في اكتشاف مسلك الرواية، إضافة إلى ما يسرده الروائي التركي أورهان باموك عن تفاصيل تأليف عمله المعنون «متحف البراءة»، إذ قضى صاحب «غرابة في عقلي» شطراً من حياته في الرسم قبل أن يصبحَ روائياً. كذلك استنكهت مواطنته أليف شافاك سرائر قصص جدتها عقب قراءة ماركيز. المُنقذ يتصدرُ الكتاب بعد مقدمة مترجمه عبد الله الزماي مقال إدواردو غاليانو الذي يفصحُ بأنَّ الهدف من تأليف رائعته «كرة القدم في الشمس والظل» تحقيق التصالح بين محبي القراءة وبين مُعجبي الكرة، غير أنَّ هذا الكتاب ينقذ حياة شخصية سياسية إذ ينقل مؤلف «ذاكرة النار» عن فيكتور كونتانا بأنّه وقع في 1997 بيد القتلة المأجورين وإنهالوا عليه ضرباً وبينما هو على مشارف الموت تناهى إلى سمعه بأنَّ أفراد العصابة يتحدثون عن الكرة، فإذا به يشارك في النقاش مدلياً برأيه ولم تكنْ معلوماته إلا ما قرأه في كتاب إدواردو غاليانو. وبذلك تركوه مُبلغين إياه بأنَّه في مأمن. ومن الطريف ما يسرده غاليانو أن كتابه «الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية» الذي رشح لجائزة «كازا دي لاس أميركا» في كوبا حظر في معظم بلدان أميركا اللاتينية وأحرقته السلطات العسكرية. لكن في بلده الأوروغواي كان الكتاب يُتداول بحرية بين السجناء لأنَّ الرقباء زعموا بأنه من الكتب الطبية. ويسترسلُ غاليانوُ مسترجعاً ملهمة إحدى قصصه في مجموعة «المرايا»، وهي ماتيلدا لاندا التي تنتحرُ احتجاجاً على سلطة فرانكو في أسبانيا. أكثر من ذلك ينقلُ عن الشخص الذي حضر في أمسيته في أورينس الإسبانية رأيه عن أسلوبه قائلاً له «من الصعب أن تكتب بهذه البساطة» وفي الفقرة الأخيرة يشيرُ غاليانو إلى معايشته مع عمال المناجم في لالاغو ورغبتهم في الاستماع إلى قصص البحر. وبدورها تعود الكاتبة التركية أليف شافاك إلى مرحلة الطفولة المُلَفَعة بغلال الحزن، وكيف اهتدت إلى أرض القصص وصاحبت العُقلاء والمجانين في عالم الكتب وفارقت أجواء البيئة المُحافظة التي هيمنت عليها السلطة البطريريكية، ولم يعد يشغلها سوى ما هو طي الكتب وتبدد الشعور بالوحدة في أسرة مكونة من ثلاثة أشخاص. كانت الأمُ تعمل معالجة تساعد الناس وهي التي شجعتها على الكتابة عندما اشترت لها دفتراً فيروزي اللون لتسجلَ فيها يوميات فتاة صغيرة. إذ تؤكد مؤلفة «بنات حواء الثلاث» بأنَّ الكتبَ غيرتها وأنقذتها وأقامت لها عالماً خالياً من الرتابة والملل. رحلة استشفاء ما تحكيه الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي عن تجربتها في اختيار الكتابة هو ملمحُ آخر من سلسلة قصص الروائيين حول احتراف مهنتهم. تستشهدُ صاحبة «ما وراء الشتاء» بما كتبه إدواردو غاليانو في كتاب «المُعانقات» عن العجوز المُتكتم الذي ظنه اللصوص غنياً فسطوا على بيته حيث عثروا على صندوق اعتقدوا أنه كنز، لكن الأخير لم يكن ذهباً إنما مجموعة من الرسائل. هؤلاء بدورهم أعادوا إليه تلك الرسائل عبر ساعي البريد، وبذلك كان يستقبل العجوز كل أسبوع ما يحمله إليه ساعي البريد بسعادة كبيرة. تعتقدُ شهرزاد أميركا اللاتينية بأن مهنة الأدب شبيهة تماماً بما قام به اللصوص، أن تأخذ شيئاً واقعياً وبحيلة سحرية تحوله إلى شيء جديد. أضفْ إلى ذلك أنَّ مؤلفة «ابنة الحظ» تسردُ حكاية روايتها الأولى «بيت الأرواح». عندما كانت منفية في كاراكاس تتلقى مكالمة تخبرها بأن الجد يحتضر، ولما كانت العودة إلى تشيلي لتوديع الراحل مستحيلة فعوضت بُعْدها بالكتابة إلى جدها رغم قناعتها بأنه لن يقرأ ما تكتبه. وبذلك تتوالد من الخبر المؤلم والبعد رواية مُتكاملة. ثُمَّ تنصرف إلى رواية «باولا» التي جاءت مترصدة لما مرت به ابنتها من معاناة مُهلكة، إذ رقدت على السرير مدة سنة قبل أن تتوفى. هنا تبدو الكتابة والسفر رحلة استشفاء من حزن مُبرح. فضلاً عما أسلف الإشارة إليه، فإن إيزابيل الليندي تبوح بالحميمية التي تربطها باللغة الإسبانية ومناخ الأسرة التي نشأت فيها وإخفاقاتها في الزواج وأسفارها، وما يُشكلُ الثيمة الأساسية في روايتها. ويتناول ماريو فارغاس يوسا محاولاته للتغلب على الخوف من التحليق بقراءة الكتب، ويذكر عناوين روائية رافقته في رحلاته. ويفردُ الكاتب البريطاني من أصل ياباني كازو إيشغور خطته لكتابة «بقايا النهار» وانقطاعه عن كل شيء تحضيراً لانطلاقة المشروع، مُوضحاً أن الفيلم الذي شاهده في السبعينات ألهمه بطله بنحت شخصية «ستيفنز»، رئيس الخدم في «بقايا النهار». ويبدي رأيه عن توقيت الكتابة مقتنعاً بأن البدء في الوقت المبكر قد يسبب القدر نفسه من الضرر الناجم عن البدء متأخراً للغاية. ويدلي هاروكي موراكامي بشهادته في صفحات متحدثاً عن التحول من صاحب المقهى إلى الكتابة، لافتاً إلى فضيلة الكتابة بالإنكليزية. ويذكر الكاتب التشيلي روبرتو بولانيو في ورقته أن الكاتب هو من لا يتخبطُ مثل السمكة داخل السجن أو في المنفى بل تنمو لديه أجنحة وخياله يكون أكثر حدة. وماذا تفعلُ إذا ساقك القدر إلى تلك التجارب وأنت لا تجيد الكتابة؟ من جانبه، يشرحُ يان مارتل عن ثلاثة عناصر أساسية في الكتابة: الإلهام، والعمل الجاد، والتأثر، عارضاً العناصر هذه في خطوط رواية «حياة باي». ويطالبُ أورهان باموك بإنشاء المتحف الضام لممتلكات عامة وحياة عادية مثلما تفعل ذلك الرواية. تتوصل في نهاية هذه الأوراق إلى أنَّ الكتابة هواية ورغبة بقدر ما هي صناعة تتطلّب مجهوداً وصراعاً مع الكلمة.

مشاركة :