59 كاتباً يتحدثون عنه: «روتين الكتابة» مرساة وسط الصخب

  • 5/7/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

مهاب نصر| «الأسطورة هي أن تقوم بما هو عادي كل يوم وتستمر، لتحدث الأشياء غير العادية».. هذه العبارة للشاعر والكاتب الليبي المقيم في أميركا هشام مطر تلخص وجهي حياة الكاتب. فما الكتابة؟ أليست توقفا عند تخوم الحياة بعين مستطلعة وكأن حياة تجري على مسافة منا؟ غير أن هذه المسافة ليست حقيقية بالطبع، وبالأحرى تشبه الكتابة رأسا طافيا لجسد يسبح في نهر، فهو منخرط في الحياة لكن صوتا ما يسأل أين أنا؟ وما علاقتي بكل هذا؟ في كتاب «يوم من حياة كاتب» من ترجمة علي الزين، تطالعنا شهادات 59 كاتبا وكاتبة عما يسمى «روتين الكتابة». يبدأ هشام مطر يومه في السادسة صباحا مع تمارين رياضية، ويكتب في استوديو منفصل، أما الكاتبة شياو جوه (الروائية البريطانية من أصل صيني) فتبدأ الكتابة من «حلم»؛ «يبدأ يوم الكتابة عندي مع حلول الليل، أو بعد منتصف الليل، أو في الصباح الباكر، بعد انتهاء أحلامي مباشرة. هناك عندما أستيقظ في شقتي شرق لندن، وأنا أتأمل حلمي فيما أعد القهوة». جدول مواعيد مدهش ما يقوله بعض الكتاب عن تفاصيلهم اليومية من حيث الانتظام في جدول المواعيد، مثلما تفعل الكاتبة آن رايت، وكأنها تسيطر على يومها كله. فحياة الكاتب العربي عادة ما لا تسير بهذا الانتظام، بل كثيرا ما تخضع للعشوائية في مجتمعات يضطر فيها الكاتب إلى قضاء ساعات طويلة قد لا يكون لها علاقة بحرفته الأدبية، وهو بالطبع معرض طوال الوقت للقلق بشأن المستقبل، في منطقة هي الأشد اضطرابا الآن. مثلا قد لا يتمكن الكاتب العربي ببساطة أن يفعل كما هشام مطر، فيغادر منزله قبل الاستماع إلى نشرة الأخبار فرارا من تأثيرها في أفكاره. يقول هاري كونزو «أكتب في غرفة ساكنة تطل على منظر رائع وملهم للطبيعة». كان يمكن للكاتب الروائي الراحل خيري شلبي أن يكمل بنظرته الماكرة «وأنا كنت أكتب في المقابر». والآن يمكننا تخيل كتاب يدونون ملاحظة في كراس أمام نصف جدار متهدم بعد القصف. إعادة صنع الحرية الكتاب يفترض مسبقا حالة التلهف إلى معرفة سلوك الكتاب وروتينهم اليومي. بالطبع في الكتابة، كما في الفن عموما، شيء ما خارق للعادة، ولذا يبدو للوهلة الأولى وكأنها في صراع ضد الروتين. لكن «الروتين» هو نوع من المخدر اليومي، الحفاظ على درجة من الثبات وسط الحياة المضطربة والاندفاعات والميول والرغبات المفاجئة. لكن ألا يهدد هذا الروتين نفسه الكتابة بتحولها إلى مهنة مثل أي مهنة أخرى؟ فالموظفون في دواوين الوزارات، الأطباء، عاملو النظافة.. لهم روتينهم اليومي أيضا، وإن لم يتنبهوا إليه أو يأخذوه على محمل الجد. ألا يهدد الروتين حرية التجربة الإنسانية؟ عن أي حياة إذن يمكن لكتّاب يعتبرون أن كوب الاكسبرسو، أو ممارسة الرياضة الصباحية، أو سماع برنامج موسيقي معين بشكل دائم هي طقوس لازمة لأن يكتبوا؟ يكتب مطر «قرأت في بعض الكتب أن العازف شوبان كان يتوصل إلى بعض أفكاره أثناء العزف ارتجاليا على البيانو، ومن ثم يقضي بقية يومه وهو يحاول إعادة صنع هذه الحرية من أجل كتابة هذه الأفكار». «إعادة صنع الحرية»! عبارة عبقرية، إذ لابد أن تكون الحرية نفسها قد توافرت قبلا، وأن تكون المجازفة قد جرفت الجسد والخيال معا، وأن يكون الرأس الطافي فوق النهر قد غطس فيه مرات وتجرع من طين القاع. يقظة دائمة طريف ما تقوله هيلاري مانتل بما يشبه التهكم على هؤلاء المنتظمين في الكتابة وكأنها إنجاز لجدول أعمال، لكنها تختم حديثها متوقفة عند حدود السؤال: ما الإلهام؟ «في رأيي الإلهام هو اليقظة الدائمة، والبقاء في حالة ترقب للمادة التي تكتبها ليلا ونهارا، في النوم وفي اليقظة». وبغض النظر عن الكتابة التي هي إجراء تدوين منتظم، فـ«الإلهام» هو تحديدا ما تعرّفه مانتل بقولها: أن تبقى في حالة يقظة، يقظة تجاه العالم، يقظة وسط عاصفة تجتاحك، احتفاظ عنيد بالمسافة بين ذات تفكر، وأخرى منخرطة تماما في مسارات الحياة ومعرضة لتقلباتها. تأتي الكتابة من الصخب، من الاستسلام للضجيج كما يقول الروائي جوناثان كو «فإذا كنت مركزا بعمق على العمل، فإن الاصوات من حولك ستتلاشى تماما. وإذا كنت تبحث عن فكرة ولم تجدها فقد يساعدك الاستماع إلى الصخب». عندما نفتقد الكلمات هل الكتابة ضرورة أصلا؟ أم انها استجابة لضرورة، لشعور ضاغط بأن ثمة ما لم يقل، ثمة ما لابد أن يستأنف، و«مالم يقل»، هذه هي الحياة الصاخبة نفسها التي تخفي منطقها ومعناها، واللذين لا يمكن الكشف عنهما بلعبة ذكاء إنما بإصغاء لا نعرف إلى أين يفضي بنا، ولا يمكننا تحديد وجهتنا معه مسبقا. «إن أكثر الأوقات التي نكون فيها في حاجة إلى الشعر هي عندما نفتقد إلى الكلمات: في أوقات الفرح والحزن، وفي أوقات التصالح والانفصال؛ فعندما نسمع عبارة (لم تكن ثمة كلمات تصف ذلك) تأكد أنه كان ثمة كلمات». لا يمثل الروتين أكثر من مرساة في الصخب، انتظام يمكن من التقاط الأنفاس، راحة لذراع كلّت. «لا أنطلق في تأليف كتاب بخطة واضحة المعالم» هذا ما يقوله أيان رانكين، وهو عبارة يمكن أن نصف بها الحياة نفسها والتي لن يجعلها «الروتين» وحده ذات معنى. ما يثير شيئا من القلق تجاه هذا النوع من الشهادات حول «تأليف الكتب» هو الطقوسية التي تفرغ فعل الكتابة من مضمونه، أو تجعل أهميتها أمرا مسلما به، إنها تشبه من يحمل المرساة على كتفه بانتظار السفينة. الكتاب صادر عن «تكوين».

مشاركة :