أسوأ ما يحدث في السياسة هو خوض معركة فات أوانها، أو شن سلام لم يعد له شروطه؛ ويكون الأمر في أكثر حالاته سوءاً عندما يُفتقد الإحساس بالواقع وما يحدث فيه، وفي كل هذه الحالات فإن الدبلوماسية والحرب لا تصل إلى نتيجة أكثر من ملء فراغ الوقت وقاعات المنظمات الدولية. سبقت في هذا المقام الإشارة إلى أن التطورات في القضية الفلسطينية تسير على مستويين: القادة في إسرائيل وفلسطين؛ والواقع الديمغرافي والجغرافي. المستوى الأول لا يزال الصراع فيه قائماً بأشكال مختلفة بالدبلوماسية الساعية إلى ما بات معروفاً طوال العقود الماضية بحل الدولتين؛ وبالصراع المسلح سواء كان بالكلمات النارية للمقاومة الفلسطينية، أو بالصواريخ من وقت لآخر، أو بالحرب التي تشنها إسرائيل على غزة بشكل متقطع أو متواصل. والمستوى الثاني يدور في داخل الحقيقة التي لا يمكن أن يتجاهلها أحد، وهي أنه بين نهر الأردن والبحر المتوسط يوجد 12 مليون نسمة نصفهم من الفلسطينيين والنصف الآخر من اليهود؛ وبسبب التداخل السكاني والاعتماد المتبادل في أمور كثيرة، فإن مجالاً سياسياً واقتصادياً بات يولّد تحركات سياسية تختلف عما يجري على مستوى القادة يتجه نحو كيان واحد ثنائي القومية والصفات الثقافية والهوية التاريخية.آخر التعبيرات عن تغييرات الواقع ظهرت في شكلين: أولهما جاء من غزة، ومحوره مظاهرات العودة إلى فلسطين، والتي يقطع المراقبون بأن الصفة العامة سلمية وسياسية، تريد العودة لنحو 70% من سكان غزة من اللاجئين الذين انتقلوا إلى القطاع في أثناء حرب عام 1948، وما دام أنه لا توجد دولة فلسطينية تحتويهم، فإن البقاء في معسكرات اللاجئين طال أكثر مما يمكن أن يتحمله شعب، ومن ثم فإن «العودة» إلى المدن والقرى والبيوت القديمة يصير هدفاً في حد ذاته. وثانيهما أن لائحة فلسطينية - إسرائيلية تحت اسم «أورشليم – القدس» قررت الدخول في انتخابات المجلس المحلي للمدينة المقدسة. وربما لم تكن هناك مصادفة عندما أعلنت الولايات المتحدة عن عزمها نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس لكي يكون ذلك اعترافاً منها بأن القدس عاصمة لإسرائيل وحدها، حتى ولو أن الإعلان الأميركي ترك الباب مفتوحاً للمفاوضات حولها. بعيداً عن هذه البهلوانية السياسية فإن المدينة ذاتها تضم 350 ألف فلسطيني حاصلين على الإقامة في القدس، ومن ثمّ حق التصويت في الانتخابات المحلية التي سوف يأتي موعدها في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.اللائحة كما هو واضح تحمل الاسمين العبري والعربي للمدينة، ويقودها الفلسطيني النشط عزيز أبو سارا، وأحد قدامى الناشطين من أجل السلام اليهودي جيرشون باسكين؛ والقائمة ذاتها نصفها من العرب والنصف الآخر من اليهود، ونصفها من الرجال والنصف الآخر من النساء، أما مَن يوجد على رأسها فهو الفلسطيني عزيز. رؤية هذه الجماعة المختلطة هي أن القدس قائمة على التنوع، وعلى عدم التجاهل لنصيب وحقوق جميع من يسكنون فيها، هي مدينة مشتركة في نظر هذه المجموعة من أهلها على الأقل. والفلسطينيون فيها رغم جذورهم التاريخية العميقة وبيوتهم ومرابعهم حولها، حاملون فقط بطاقات الإقامة بعد أن عزفوا عن التقدم بطلب الحصول على الجنسية الإسرائيلية انتظاراً لليوم الذي تقوم فيه الدولة الفلسطينية فتكون القدس الشرقية عاصمتها. أقلية فقط بين الفلسطينيين هي التي فعلت ذلك وحصلت على الجنسية الإسرائيلية، وباتت جزءاً من التداخل السكاني تحت تسمية عرب إسرائيل الذين يقترب عددهم الآن من 2 مليون نسمة. إسرائيل من جانبها منذ عام 2003 بدأت في رفض طلبات التجنيس الفلسطينية، وأكثر من ذلك فإنها ألغت إقامة 14 ألف فلسطيني تحت مسميات شتى. الدخول في الانتخابات المحلية بات جزءاً من أساليب المقاومة الفلسطينية للحفاظ على هويتهم المقدسية وبقائهم في المدينة المقدسة التي يشكلون فيها 40% من سكانها.هذا المقترب الانتخابي من معضلة القدس والتعامل معها ليس فقط من حيث بُعدها الديني الذي يضع المسجد الأقصى في مواجهة حائط المبكى، أو في بُعدها السياسي كعاصمة لدولتين كما تريد السلطة الوطنية الفلسطينية، أو كعاصمة لدولة واحدة كما تريدها إسرائيل؛ وإنما التعامل معها باعتبارها مقراً للإقامة ترتب مصالح مشتركة للمقيمين فيها. ولما كانت هناك محاولات سابقة للفلسطينيين لتشكيل قوائم خاصة بهم لم يقدَّر لها النجاح، فإن المحاولة الحالية تحاول الدخول إلى القضية الفلسطينية الكلية ليس من بوابة العداء والصراع مع إسرائيل، وإنما من باب التعايش السلمي المشترك القائم على احترام حقوق جميع الإطراف والطوائف العربية واليهودية. القائمة العربية اليهودية في هذه المحاولة سوف تجد مقاومة كبيرة على الجانب الفلسطيني باعتبارها تسلّم بوحدة المدينة وتمنع تقسيمها الضروري لقيام الدولة الفلسطينية التي نصّت مواثيق وعهود كثيرة على أن تكون عاصمتها القدس الشرقية. ولكن المقاومة الأكبر سوف تكون من الجانب الإسرائيلي الذي يسعى جاهداً لتهويد القدس والتخلص من العرب المقدسيين مستغلاً حالة «الإقامة» التي تجتهد إسرائيل في جعلها تعيسة ودافعة إلى الرحيل. ولكن رغم ذلك فإن استطلاعات الرأي العام تشير إلى اتجاه متزايد لدى الفلسطينيين للذود عن إقامتهم بكل الوسائل، بما فيها الوجود في المجلس المحلي للمدينة، كما أن أقلية إسرائيلية ساعية للسلام من خلال التعايش السلمي سوف تقف إلى جانب اللائحة.وعلى أي الأحوال، وأياً كانت نتائج انتخابات المجلس المحلي لمدينة القدس في أكتوبر القادم، فإن الاتجاه في حد ذاته يعزز شكل الوشائج المتنامية بين العرب والإسرائيليين على مستوى الأراضي الواقعة بين النهر والبحر. تجربة الفلسطينيين من عرب 1948 أعطت دروساً مهمة للتوجهات الحالية القادمة من غزة ومن القدس الشرقية، فقد كان التمسك بالأرض أولاً هو الهدف الاستراتيجي الأسمى، وهو الذي يرتّب ثانياً تقديم عامل الديمغرافيا المرتبط بالسكان ومصالحهم في العيش والبقاء على سياسات المقاطعة، ومن ثمّ خلق الإطار لكيان سياسي، ثالثاً يعطي الفرصة لطلب المساواة وتلبية حقوق الإنسان الأساسية. المنهج والمسار هنا مختلف، وهو لم يأتِ حتى الآن من أطراف دولية، ولا حتى من تلك الأطراف المتصارعة، ولا تزال المنظمات الدولية تعلن تمسكها بحل الدولتين؛ ولكن الواقع دائماً له مساره الخاص، ويفرض أساليبه حسب تفاعلات البشر ومصالحهم المعيشية اليومية. العالم العربي وهو يؤيد حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم عن طريق الممثل الشرعي والوحيد، منظمة التحرير الفلسطينية، فإنه في الوقت نفسه عليه أن يخلق جسوراً مع الفلسطينيين في الداخل تقوم على الاستثمار وتشجيع كل ما يجعلهم باقين على أرض فلسطين. لقد حدثت النكبة منذ سبعين عاماً عندما خرج الفلسطينيون من أراضيهم؛ وجاءت النكسة منذ خمسين عاماً لكي تضع جزءاً كبيراً منهم تحت الاحتلال مرة أخرى، هذه المرة لا ينبغي أن تكون هناك لا نكبة ولا نكسة، وإنما وسائل متعددة للبقاء والتعايش في ظل المساواة والكرامة.
مشاركة :