جمال ناجي المتفرد في الكتابة الروائية والقصصية

  • 5/10/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تقوم كتابة الروائي والكاتب الأردني الفلسطيني الراحل عنا قبل أيام جمال ناجي (1954–2018) على تنوع عوالمه الروائية والقصصية ونهله من خلفيات وتجارب ومصادر متنوعة للسرد. فهو لا يرهن هذه الكتابة بخط صارم من الموضوعات وطرائق السرد، بل تجيء تجربته كل مرة مختلفة عن سابقتها، مع الاحتفاظ بقدرة لافتة على الحكي وتشكيل الشخصيات وإقامة عوالم متوازية تبين عن معرفة عميقة بالتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تضرب المدينة العربية وتحيلها إلى مواضع للصراع والتنافس العنيف. وقد بدأ ناجي تجربته الروائية بعمل نشره في بداية ثمانينات القرن الماضي بعنوان «الطريق إلى بلحارث» (1982) يروي فيه تجربة مدرس في مــنطقة نائية في السعودية، حيث نقع على قدر من التصادي مع الكاتب الفلسطيني يحيى يخلف في روايته «نجران تحت الصفر». لكن جمال ناجي سرعان ما انتقل إلى عالم آخر من الكتابة الروائية مركزاً على محاولة رصد طبيعة التحولات العاصفة التي طرأت على مدينة عمان منذ بدايات تشكلها واحتضانها مهاجرين آتين من أماكن وبلدان مختلفة، من شركس وشيشان وشوام وعراقيين وأبناء الجزيرة العربية، وفلسطينيين دفعهم الاحتلال الصهيوني إلى الهجرة إلى شرق الأردن عام 1948. وهكذا فإنه في روايته التالية «وقت» (1984) يصوغ هذه التحولات التي تعصف بالمخيم الفلسطيني، أما في روايته «مخلفات الزوابع الأخيرة» فيعود إلى بدايات القرن العشرين ليشتغل على تشكل مدينة عمان من أعراق وخلفيات قومية ودينية ومناطقية، ساعياً إلى القول أن هذه الكتلة البشرية تمثل نوعاً من صهر هذه الخلفيات جميعها في مدينة تمثل طبيعة الدولة الأردنية الحديثة. اختبار العيش إن جمال ناجي، الذي بدأ تجربته الروائية انطلاقاً من اختبار العيش في منطقة نائية في الصحراء، ويحدث بطله نفسه عن أحلام الثورة والعدالة الاجتماعية وظلم الطبيعة وبني البشر، يسعى في روايات تالية إلى الكتابة عن المال والبنوك والصراعات التي تدور بين أرباب المال والمتنفذين في عالم المصارف، وقد عمل هو نفسه سنوات عدة في البنوك وأطل على خبايا هذا العالم والدسائس والمؤامرات التي تدور فيه. وقد أنجز في هذا السياق روايتين: «الحياة على ذمة الموت» و «الريش»، ليعود في سنوات تالية إلى كتابة تاريخ مواز للقضية الفلسطينية عبر التركيز في روايته «غريب النهر» على زمن يبدأ من السنوات الأخيرة للدولة العثمانية، وصولاً إلى القرن الواحد العشرين الذي يكتشف فيه الفلسطيني امتداده في التاريخ والجغرافيا. ومما يشير إلى تنوع عوالم جمال ناجي تركيزه في روايتيه الأخيرتين «عندما تشيخ الذئاب» (2008)، و «موسم الحوريات» (2015) على البحث عن التحولات الاجتماعية والفوارق الاقتصادية الهائلة التي تقوم بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الأردني، وهو ما يؤدي إلى ولادة التطرف والإرهاب واحتضان أفراد يائسين عنيفين يندفعون إلى الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية التي تقاتل في أفغانستان والعراق وسورية. في روايته «عندما تشيخ الذئاب» يشيد ناجي عالماً فيه الكثير من التركيب والخيال والمزج بين المعقول وغير المعقول، الشعوذة والمطبخ السياسي الذي يصنع مسؤولين ومتنفذين، رجالَ اقتصاد وأفاقين طامحين للإمساك بمفاصل السلطة. ونحن نقع في الرواية على مرحلة مفصلية من تاريخ مدينة عمان التي تدخل زمن الديموقراطية وتتحول فيها المعارضة إلى جزء من السلطة التي كانت تناصبها العداء. هذه هي الأطروحة المركزية في الرواية، على رغم اندراجها في ثنايا الأحداث المتشابكة وبابل الأصوات العديدة المقيمة في شرانقها الذاتية لا تغادرها إلا عند اكتشافها نهاية رحلتها في عالم الطموح وصراع المصالح والنفوذ. فالشخصيات التي تروي من وجهة نظرها ما يحدث لها وللآخرين، تضيف كل مرة خيطاً جديداً إلى النسيج الكلي للعمل الروائي. إننا بإزاء ما يمكن تسميته البنية الشبكية للسرد الروائي. هناك شخصيات مركزية في العمل تحكي حكاياتها مع الآخرين كاشفة لنا رغائبها وما تطمح إليه. ولكن الروائي لا يعطي سلطة السرد بصورة متكافئة للشخصيات، التي تتخذ صيغة الراوي المشارك. إن مخططه السردي هو تنمية معرفتنا كقراء بما يعتمل داخل الشخصيات، وما تؤول إليه في النهاية. هناك ست شخصيات تشارك في السرد: سندس، الشيخ عبد الحميد الجنزير، رباح الوجيه، جبران، بكر الطايل، العقيد رشيد حميدات. وهي باستثناء الشخصية الأخيرة، التي تروي مرة واحدة لتكشف عن الحملة التي تقوم بها الشرطة للقبض على عزمي رباح الوجيه، تتولى السرد أكثر من مرة. ويستطيع القارئ أن يكون وجهة نظر عن الملامح النفسية، والمنزلة الاجتماعية، والظروف الاقتصادية، والأيديولوجية التي تتبناها الشخصيات، وربما البنية الجسمانية لها. الرواة والمادة السردية ما يهمنا في هذا السياق من العلاقة بين الرواة والمادة السردية التي يوفرونها هو التدرج والتسلسل في الكشف عن أعماق الشخصيات، وما يدور حولها من أحداث، وما يعصف بها من تحولات. إن سندس، الفتاة الفقيرة خــارقة الجمال والطامحة لتحقيق رغبات جسدها وإرواء شهوتها وتحقيق توازن نفسي عبر التعلق بعزمي ابن زوجها الأول، تنير لنا جوانب من حياتها وحــياة عزمي وما يفترض أن يكون علاقة زنا محارم بينهما (على رغم أن الرواية تصر على أن عزمي ليس ابن رباح الوجيه لأن الأخير عقيم لا ينجب بسبب إصابته بمرض النكاف في الصغر). كما يجلو لنا الشيخ الجنزير سمات شخصيته المركبة، التي تجمع بين طبيعة رجل الدين الذي يدير جمعيات خيرية إسلامية وشخصية الرجل المشعوذ الذي يداوي مراجعيه، وخصوصاً النساء منهم، بالأعشاب والخلطات الغريبة، ويجمع في علاقاته بين طلبة، يأخذون على يديه الدروس الدينية، ورجال سياسة، من وزراء ونواب برلمان، ورجال اقتصاد وشخصيات نافذة، ما يجعله قادراً على صنع السلطة والتلاعب بها، على رغم كونه لاعباً على الحبال، مترجحاً بين رجل الدين والمشعوذ والشخص النافذ الذي يمتلك ملامح راسبوتينية. في كتابته القصصية يعتمد جمال ناجي أسلوباً أقرب إلى روح القصة القصيرة، إلى أصولها ونموذجها الذي نظَّر له إدغار ألن بو. وهو في مجموعاته «رجل خالي الذهن» (1989)، و «رجل بلا تفاصيل» (1994)، و «ما جرى يوم الخميس» (2005)، يلتزم بنموذج بو في كتابته، نازعاً إلى التعبير المقتصد، مضيئاً الشخصية المركزية في قصته عبر وصف أفعالها وحركاتها الدالة عليها، ومفصلاً الحديث عن الحدث المركزي الذي يقيم في قلب القصة ويستحوذ على معناها وغايتها المنشودة. واللافت أن جمال ناجي، الروائي الذي تبدو كتابته القصصية من ضمن شواغله الأقل مركزية، يفصل بسيف بتّار بين كتابته الروائية وكتابته القصة القصيرة. إن عمله الروائي يعتمد التفصيل وحشد الشخصيات، وتفريع الأحداث، وإقامة عمارة معقدة ونسيج روائي متشابك، فيما يتوجه عمله القصصي إلى الكثافة والاختزال، والحفر في ملمح من ملامح الشخصية، أو تطوير حدث أو تفصيل صغير، بوصف ذلك كله نقيضاً للكتابة الروائية. بهذا المعنى لا تسعى كتابة ناجي القصصية لكي تكون مشاريع لأعمال روائية مقبلة، أو تدريبات على فصول روائية. إنها مستقلة كنوع أدبي تختزل في بنيتها أصول النوع وسماته القارة، وما يميزه عن النوع الروائي على صعيد البنية والغاية التي تسعى الأنواع والأشكال الأدبية الفرعية إلى تحقيقها.

مشاركة :