امرأة تكابد معاناة كونها أنثى، قد يكون هذا أمراً معتادا أثناء اطلاعنا على الأدب الذي تكتبه امرأة في بيئة محافظة تحاصرها تقاليدها في إطار لا يتسع لخصوصياتها وفردانيتها، ولا يعترف موروثها الاجتماعي إلا بالشخصية الجمعية التي تغيّب خيارات الأفراد. ولكن الإضافي في ديوان الشاعرة السعودية لطيفة قاري الأخير «تكابد لبلابها، و.. الأسماء لا تكفي لعصفورين»، هو أن المعاناة لا تأتي فقط من جفاف البيئة فحسب، بل تأتي أيضا من نداوة الروح الأنثوية الشاعرة التي تزيد من تفاقم المعاناة، لذا فنحن نجد أن قصائد المجموعتين الشعريتين المضمومتين في ديوان واحد، يكثر فيهما الحديث عن اللغة، وعن الشعر، باعتباره مصدرا آخر للمعاناة، وكون الشعر لونا من فرط حساسية الروح، ما يفاقم من حجم الألم. في حضن الطبيعة تجمع قاري في الديوان الصادر عن دار بيسان ببيروت عام 2012 في مجموعتين قصائد كتبتها بين عامي 1410هـ و 1425هـ أي خلال فترة طويلة تمتد لـ 15 عاما، غير أن بصمة الشاعرة خلال هذه السنوات الطويلة ثابتة الملامح، ومن أهم الملامح الملفتة على طول الديوان وعرضه وعمقه ملمح الحضور الصارخ والنوعي للطبيعة، بيد أنّ هذا الحضور لا يتمثل وينحصر في الحضور الشكلي الذي يؤثث اللغة الشعرية، وإنما هو حضور الذوبان والانصهار في معادلة تحيل الطبيعة إلى معادل موضوعي لمكابدات الذات، فاللغة أو الشعر هو الممثل الجمالي الداخلي للذات باعتبارها حضورا جماليا يعبر عن جمالية فردانيتها من خلال الخيار اللغوي الشعري، أما الطبيعة فهي المعادل الخارجي لهذه اللغة الشعرية، وبعبارة أدق: الطبيعة في قصائد قاري هي تعبير مادي خارجي عن الشعر والتجلي الأبرز لحقيقته، في حين يمكن اعتبار الشعر ذاته طبيعة داخلية غنّاء. ما سبق لا يعني أن الطبيعة والشعر في قصائد قاري ليسا سوى واحة خضراء تهرب إليهما الشاعرة اتقاء جفاف الحياة وتصحرها، ذلك أن النظام «الشعري/ الطبيعي» الذي تخلقه قاري ليس غارقا في الغبطة على غرار المدرسة الرومانسية، ولكنه تمثيل للحياة بما فيها من صراع حاضر في جميع الكائنات بما في ذلك الطبيعة والشعر، وهذا ما يمكن اعتباره ببساطة البصمة المتميزة لعالم قاري الشعري. التورط الجمالي من الواضح تورّط الديوان في اللون الأخضر منذ غلافه حتى أعمق نقطة في خلجاته الشعورية، في البداية تواجهك عبارة «تكابد لبلابها»، لترسم منذ البداية ملامح أخرى لهذا الأخضر الذي اعتدنا عليه كرمز للجمال والسكينة، إنه هنا فخ وشبكة تشبه خيوطا عنكبوتية تحاصر وتقيد أنثى وقعت في حبائل هذه الشجرة المتسلقة، وقعت في حبائل ذاتها العاشقة للجمال حدّ التطرّف. حين نتوغل في الديوان، وتحديدا في قصيدة «مقاطع من ليل طويل وعادي»، نجد أن هذه الشجرة الخضراء المتسلّقة أضحت رمزا لتكبيل الزمان وانسداد الأفق المكاني: «البيوت مربعة/ مستطيلات/ مثلثات جميلة وحالمة/كلها بأضلاع وزوايا/كلها مقفلة الدوائر بلا أضلاعٍ /بلا زوايا تختنق في رحمها الضيّق /ولكنها أيضا مقفلة على شارعين /تطلّ النوافذ والشرفات حدائق زنبق والكلماتُ تدقّ على الباب /باب غريبٌ/قديمٌ معشَّق/والزمان يعرّش لبلابه/فوق صدر النّهار الكئيب المؤرّق. لا الكلماتُ استطاعت سبيلاً ولا البابُ شُجّ قليلاً لينطق». تمعن قاري في هذا النصّ في الموازاة بين اللغة والطبيعة، بين النثر والوزن، المكان والزمان، الأضلاع والأقواس، الأضلاع والزوايا كأشكال توحي بالذكورة، والأقواس كإشارات إلى الأنوثة، لكنّ المشهد النهائي لمجمل اللوحة هو مشهد صامت ومغلق، الدوائر كالمربعات والمثلثات مغلقة الأفق، الأبواب والنوافذ لا تخلق امتدادا، ولا تنفتح منها كوة لضوء، حتى اللغة لا تبتدع «سبيلا» للخروج من هذه المشهدية الجامدة. الرسم بالأصفاد ما سبق يوقفنا على فنيات المشهد الذي تريد الشاعرة أن توقفنا عليه، إنه مشهد تكتمل فيه عناصر المشهدية، بيد أن الغريب أنه مشهد غير متحرك، وكأنه لقطة من فيلم جُمِّدت الحركة في أوصالها، وهذا ما يجعلنا نفهم لماذا تصف النصوص الكلمات بأنها «لا تصل إلى غاياتها»، ولماذا تبدو الأمور مخالفة لطبيعتها التي يفترض أن تكون عليها، فالأنوثة تبدو متوحشة، والبيوت جميلة ولكنها خانقة، حتى الرحم الذي يفترض به أن يكون رمزا للخصب والنماء، أصبح هو الآخر سجنا، التاريخ يمكن أن يكون مكمنا للهوية، ولكنه صار في نصوص قاري مصدرا للآلام والاحتراب، تقول في المقطع الثالث من قصيدة «مقاطع من ليل طويل وعادي»: بعض الزنابير تطنّ قريبا من أذني/أهشّها فتعودْ/ثمّ أهشها فتعودْ/ثمّ أهشّ نفسي فلا تعودْ تبقى الأشياء كما هيَ /نحن فقط من نتغيّر/نحن فقط من نمضي/إلى كرمة خمرها من ورقْ نفيءُ عرايا/نفيء سبايا/نزنّر أغصانها بالكلامِ /ونقصف أغصانها بالأرقْ/تعيد علينا الحكايا. حكايا وتبعث فينا دبيب الغوايةْ/نهاياتها لا تثير جنوني /تثير فقط رغبتي في ال غ ر ي ق نجد هنا ثباتَ «التاريخ/ الحكايا» الذي يعاود طنينه باستمرار في مقابل هشاشة الذات سريعة الفناء، التاريخ شجرة/ «خمرة» نفيء إليها بلا وعي، نمترسها باللغة/ «الكلام»، ولا نستطيع أن نستظل بما فيها من خضرة وجمال لما نختزنه من عنف و«قصف» و «أرق». ثمة وحدة موضوعية بين فكرتي المجموعتين الشعريتين اللتين يضمهما ديوان واحد، فالمجموعة الثانية هي امتداد لفكرة المجموعة الأولى ومتولدة عنها. يظهر ذلك جليا منذ العنوان «الأسماء لا تكفي لعصفورين»، فـ «الاسماء» هي إشارة متجددة إلى أيقونة اللغة/ «الشعر» الذي طالما عملت عليها في المجموعة الأولى، وينسحب ذلك على مفردة «عصفورين» التي تشير إلى الطبيعة من جهة، وإلى العلاقة مع الرجل من جهة أخرى.
مشاركة :