من أفلام المسابقة الرسمية في مهرجان كان السينمائي شاهدنا الفيلم الروسي “صيف” Leto للمخرج كيريل سيربرنيكوف، وهو المخرج الذي يخضع في الوقت الحالي للإقامة الجبرية دون أن يكون السبب معروفا بالضبط، فالسلطات تقول إنها تتحفّظ عليه بموجب اتهامات بالفساد، فلماذا لا يقدّم للمحاكمة، وأي نوع من الفساد بالضبط؟ لا أحد يعرف. أما الصحف الغربية فتشير دون تأكيدات، إلى أنه غالبا يخضع إلى نوع من العقاب بسبب مهاجمته سياسة الرئيس فلاديمير بوتين وبسبب أفلامه المزعجة للسلطة. ولعل فيلم “صيف” أحد هذه الأفلام “المزعجة” رغم أنه يدور في الماضي، في أواخر السبعينات عندما كانت مجموعات من الشباب تنظم حفلات تحت الأرض أي بشكل سري، لموسيقى الروك الراقصة الصاخبة التي كانت تعد من المحظورات في الاتحاد السوفييتي في تلك الفترة. في قسم المسابقة الرسمية لمهرجان كان الدولي في نسخته الحادية والسبعين عُرض الخميس، الفيلم الروسي “صيف” للمخرج كيريل سيربرنيكوف، في حين عُرض في قسم “نظرة ما” الفيلم الكيني “رفيقي” لمخرجته وانوري كايون، والفلمان يطرحان مواضيع محظورة في البلدين وقد اعتبر التعبير بالرقص والغناء الذاتي الذي يحمل سمة العدمية والتشكّك في كل شيء، نوعا من الاحتجاج الرمزي على الأوضاع التي كانت سائدة في البلاد والتي أدت بالشباب إلى الحيرة والشعور بالاغتراب، ثم الرفض وتحدي المنظومة الأخلاقية للحزب الشيوعي الحاكم وإعلان التمرّد عليها. حرية متمردة فيلم “صيف” يختلف تماما عن تحفة المخرج كيريل سيربرنيكوف “الطالب” الذي عرض في قسم “نظرة ما” قبل ثلاث سنوات، فمخرجه يطمح إلى أن يكون عملا موسيقيا يعود إلى مدينة لينينغراد، في نوع من الحنين إلى زمن التمرّد القديم، عندما كان الشباب يمتلكون الإرادة والرغبة في الاحتجاج متسلحين بالموهبة. ويدور القسم الأول من الفيلم على الشاطئ في الصيف، وتتردّد أغنية يغنيها بطل الفيلم “مايك” عن الصيف، لكن الفيلم سرعان ما يدور في معظمه، في فصل الشتاء مع الكثير من المشاهد التي يلعب فيها المطر دورا واضحا في تجسيد حالة الحلم الرومانسي مع مزيج من اضطراب المشاعر والرغبة المكتومة في التعبير عن الحب. وتدور فكرة الفيلم الرئيسية حول تمرّد الشباب، والاختيار الفردي في مواجهة الأيديولوجية الجماعية، ورفض السائد، والبحث عن التواصل لا عن طريق الأيديولوجيا بل من خلال الرقص. ويعادل تشكيل جماعة الراقصين هنا فكرة التنظيم الذي يرفض الامتثال للسياسة السائدة في المجتمع، من خلال رفض أشكال العيش ونمط الحياة والأزياء السائدة والموسيقى الرسمية، وقبل هذه الأشياء كلها، رفض الخضوع للسياسة الرسمية السائدة المتزمّتة. لدينا مجموعة من الشباب يقتبسون الأغاني من الفرق الغربية الشهيرة مثل “البيتلز″ وغيرها، ومن مشاهير الغناء الغربي مثل ديفيد بوي وميك جاغر وبوب ديلان، بل يقلدونهم في أشكالهم وطريقتهم في الملبس مع إطلاق شعورهم، وممارسة نوع من الحرية الجنسية أيضا. ويمتلئ الفيلم بالأغاني والمشاهد الكثيرة المبتكرة التي يلعب فيها الخيال دورا أساسيا، حيث يتخيل الأبطال أنفسهم في واقع آخر، يقومون بأفعال بطولية ضد سلطة القمع البوليسية، أو يتحدون التزمت الاجتماعي السائد في مجتمع “الكبار” حينما كان فيلسوف الثورة والشباب فيلهلم رايش، يحرّض على التمرّد عليهم، إلاّ أن الفيلم يفتقد إلى الحبكة التي تجمع بين شخصياته المختلفة التي يظهر منها البعض ويبقى، في حين يختفي البعض الآخر أو يتراجع إلى الخلفية. وتبقى في المقدّمة من البداية “ناتاشا” هذه الفتاة الرائعة الجمال التي ستغرم بمايك وتتزوجه وتنجب منه طفلا، إلاّ أنه ينصرف عنها وينشغل بإعداد أغانيه وألحانه، فتبرد العلاقة بينهما فتتجه بمشاعرها نحو نجم آخر صاعد فرض نفسه بقوة كمنافس لمايك هو “فيكتور”، لكن العلاقة تظل بينهما في مكانها دون أن تتطوّر، لتعود ناتاشا إلى مايك. مجتمع داخل المجتمع مجتمع داخل المجتمع وهذا كل ما في الفيلم، فليست هناك خيوط قصة أو موضوع مترابط، بل يمكن اعتبار الفيلم بأكمله شكلا من أشكال التعبير عن الاحتجاج بالرقص والحنين لتلك الفترة التي عاشها المخرج في شبابه وكان جزءا من حركة الاحتجاج عن طريق موسيقى الروك، واقترب وعرف الكثير من الشخصيات التي يقدّمها في فيلمه ومنها بطلاه اللذان يخبرنا في نهاية فيلمه أنهما لقيا مصيرهما وهما مازالا شبابا دون أن نعرف السبب، لكننا نشاهد شابا آخر يسير طواعية وهو يشعر بالسعادة ليغرق نفسه تدريجيا في مياه البحر. هناك مشاهد كثيرة مبتكرة في الفيلم خاصة تلك التي يقودنا إليها أحد شخوص الفيلم من الشباب بعد أن تنتهي أنها “لم تحدث”، أو يرفع لافتة أمام الكاميرا تحمل هذا المعنى، أي لتذكيرنا بأنها كانت عبارة عن مشاهد متخيلة، مثل المشهد الذي يدور في القطار، أو داخل حافلة أو في قاعة الرقص وكلها مشاهد تهاجم فيها الشرطة السوفييتية الشباب ويقع الصدام، لكن الغناء يستمر ويفرض نفسه رغم العنف. إلاّ أن هذا الخيال الجامح والتعبير بالموسيقى الصاخبة الراقصة وباستخدام الكثير من أغاني تلك الفترة، لا يحول دون سقوط الفيلم في التكرار خاصة مع غياب خيط قوي يربط بين الشخصيات والمواقف المختلفة، وتبدو شخصية ناتاشا حائرة وغامضة إلى حد كبير، فلا نعرف مثلا ما إذا كانت ستبقى في النهاية مع مايك أم ستنتقل إلى غيره، أم ستفضل وحدتها مع ابنها الرضيع؟ ولا تبدو القصة بشكل عام في السياق الذي وضعت فيه، كافية للإبقاء على اهتمام المتفرج لأكثر من ساعتين زمن الفيلم، إن لم يكن أصلا من عشاق هذا النوع من الموسيقى، يعرف الأغاني الشهيرة التي كانت سائدة وقتها في الغرب. نوستالجيا فاشلة "رفيقي" علاقة حب مثلية تجابه بالرفض في كينيا "رفيقي" علاقة حب مثلية تجابه بالرفض في كينيا ليست هذه هي المحاولة الأولى في السينما الروسية للتعبير عن الاحتجاج بالرقص وموسيقى الروك وتحدي المؤسسة بالغناء، كما أنها ليست المحاولة الأولى للعودة في نوستالجيا واضحة إلى فترة القلق والتمرّد والغضب المكتوم بين الشباب. ويمكنني القول عن ثقة، إن فيلم “صيف” أقل مستوى كثيرا من فيلم روسي آخر هو “الراقصون” أو “عشاق الموسيقى الراقصة” Hipsters للمخرج فاليري تودوروفسكي، الذي عرض عام 2008 وكان من النوع الموسيقي الاستعراضي الراقص، ويتميز من ناحية الأسلوب، بالمزج بين الرومانسية والاحتجاج السياسي، ويعد بيانا سينمائيا رائعا في نقد الجمود السياسي والبيروقراطية وقهر الروح الفردية ومحاولة إخضاعها لفكرة الروح الجماعية، والخضوع لسلطة الحزب ومفوضيه، ورفض الفن المخالف للمواصفات الرسمية والنظر إليه بتشكّك، خاصة إذا كان قادما من الغرب، واعتبار عشاقه عملاء للعدو الأيديولوجي. كان مخرج “عشاق الموسيقى الراقصة” يستلهم موضوعه من أكثر الفترات انغلاقا في الاتحاد السوفييتي، خلال فترة ما قبل المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في أوائل الخمسينات، هذه الفترة لا يوجّه لها الفيلم النقد “بأثر رجعي”، لكنه يسعى إلى استعادتها لكي يبيّن كيف كانت على الرغم من قتامتها الظاهرية، حافلة بالمواقف الشجاعة. ويستخدم كيريل سيربرنيكوف مخرج “صيف” الشاشة العريضة والأبيض والأسود بديلا عن الألوان، كما يلجأ أحيانا إلى تقسيم الشاشة إلى عدة إطارات، وينتقل في إيقاعات سريعة مع الموسيقى الصاخبة، ويحيط شخصيات الفيلم التي تتحرك في الكادر باللون الأبيض في المشاهد الخيالية، ويهتم كثيرا بالديكورات الداخلية التي تشي بطابع الفترة في لينينغراد: غرف المعيشة الضيقة التي تزدحم بالكثير من الأشياء، وبالتصوير الدقيق لتفاصيل المناظر الخارجية للشوارع. "رفيقي" أو رفيقتي على صعيد آخر وفي قسم “نظرة ما” عرض الفيلم الكيني “رفيقي” Rafiki، وأعتقد أن المقصود من هذا العنوان هو “رفيقتي” بصيغة المؤنث، وهو العمل الأول لمخرجته وانوري كايون الذي تقترب فيه من موضوع يعد من المحظورات في بلدها، فالموضوع يدور حول علاقة جنسية بين فتاتين هما “كينا” و”زيكي”، ابنتان لرجلين يتنافسان في الانتخابات البلدية المحلية في الضواحي الفقيرة من العاصمة نيروبي. تقليد لنجوم الغناء الغربي رفضا للسائد تقليد لنجوم الغناء الغربي رفضا للسائد والد كينا يمتلك دكانا لبيع المأكولات، لكنه يسعى إلى منصب في البلدية، وأمها انفصلت بالطلاق عن والدها، ولكن كينا تحقّق نتائج دراسية ممتازة وتنهي دراستها الثانوية بنتيجة تؤهلها لكي تدرس الطب بدلا من التمريض الذي كانت تريد أن تتخصّص فيه. أما زيكي فهي ترفض أن تخبر كينا بنتيجة الامتحان، لكننا نعرف أنها تهوى الرقص الاستعراضي، تتسكع في الشوارع مع بعض الفتيات اللاتي يرقصن على الرصيف، تبدو معتزة كثيرا بجمالها وأنوثتها الطاغية بينما تبدو كينا أقرب إلى فتى يافع، ورغم ذلك يلاحقها شاب يدعى “بلاكستا” يريدها أن تصبح صديقة له، بينما تجد هي نفسها مشدودة بقوة إلى زيكي، ثم تتطوّر العلاقة بينهما إلى علاقة جنسية مثلية ملتهبة. وعندما يكتشف أمر الفتاتين، تحيط بهما مجموعة من الشباب والرجال، يعتدون عليهما بالضرب المبرح وتوجيه الإهانات في فضيحة علنية، خاصة أن هناك من يتربّص بوالديهما اللذين يريدان اقتحام مجال العمل السياسي، فعلاقة الحب المثلي غير مسموح بها في المجتمع الكيني والأفريقي بوجه عام، ولهذا فقد منعت الرقابة الكينية الفيلم وأدانت مخرجته بعد أن قامت بإرساله إلى كان. الفيلم مصنوع جيدا، ويتميز بصوره ذات الألوان الساخنة الصريحة التي تتلاءم تماما مع البيئة والمناخ: الأحمر والأزرق والأصفر، كما يتميز بإيقاعه السريع، مع الكثير من اللقطات القريبة “كلوز آب” لوجهي الفتاتين في أسلوب يذكرنا بفيلم عبداللطيف كشيش “حياة أديل” الذي كان يصوّر أيضا علاقة مثلية بين فتاتين، إلاّ أن “رفيقي” لا يصل في مستوى تصويره للعلاقة الحسية بين كينا وزيكي إلى مستوى فيلم كشيش الذي كان يفرط كثيرا في تصوير تلك المشاهد، على الرغم بالطبع من جرأة المشاهد الساخنة التي تجمع بين الفتاتين في “رفيقي”. والمشكلة الأساسية أن الفيلم يبدأ بداية قوية، مع تصوير جيد للبيئة التي تدور فيها الأحداث وتجسيد شبه تسجيلي للحياة في الشارع في تلك الضاحية الفقيرة التي تشبه المناطق العشوائية، حيث تنتشر الأكواخ، وباعة الرصيف.. وغير ذلك. ولكن بعد أن تتّضح معالم العلاقة بين الفتاتين يظل الفيلم يدور حول نفسه دون أي تطوّر في الدراما، لينتهي نهاية غير مقنعة، تجمع بين الفتاتين رغم كل الظروف وبعد أن كانت قد تفرّقت بهما السبل، وهي نهاية رمزية أكثر منها واقعية، تريد المخرجة من خلالها أن تقول إن الحب بين الفتاتين سيبقى وسيفرض نفسه على المجتمع إلى أن تتغيّر النظرة السائدة ويعترف المجتمع بحرية المرأة وحقها في اختيار من تحب، لكن ليس بعد!
مشاركة :