ذكرات قاتل – Memoirs of a Murderer، هو عنوان تم تداوله في العديد من الأعمال الفنية الكورية واليابانية على حدٍ سواء، كأعمال أدبية أو سينمائية، لكن اليوم سوف نتحدث عن النسخة اليابانية من الفيلم والتي صدرت في عام 2017. دائمًا ما كنت أعتقد أن أغلب الأفلام اليابانية تفتقر إلى الدقة وإحكام البناء، سواء على صعيد التمثيل، الحبكة، أو حتى الإخراج والتوازن بين المشهد والآخر. لكن بعد مشاهدتي لهذا الفيلم اقتنعت تمام الاقتناع أن حكمي المُسبق كان خاطئًا، وأن اليابان حقًا قادرة على صناعة أفلام قوية وتستحق شهرة عالمية دون شك. القصة إذا قتل أحدهم والديك ثم اختفى ليأتي لك بعد سنوات طِوال ليقول أنا الذي قتلت والديك يا هذا، ماذا ستفعل؟ هذه هي فكرة الفيلم، لكن مع العديد والعديد من القيود الشديدة. ففي عام 1995 انتشرت العديد من الجرائم الوحشية في اليابان على يد شخص لقّبته الشرطة بالخانق، وهذا لأنه يقتل ضحاياه بالخنق على مرأى ومسمع من أهم شخص يهتمون بأمره في الحياة. لكن بعد مرور 22 سنة، يظهر ذلك القاتل ليقول أنا هنا، لكن تم إسقاط جميع التهم عنه بعد مرور كل تلك الأعوام حسب أحد القوانين. أصدر القاتل كتابًا بعنوان “أنا القاتل”، يشرح فيه طريقة انتقاء الضحايا وكيفية خنقهم وجميع التفاصيل الأخرى بكل تبجح وكبرياء. لكن في النهاية هل سيتركه أقرباء الضحايا هكذا دون عقاب حتى ولو منعت الحكومة ذلك؟ وهل هذا الشخص هو القاتل فعلًا أم أن هناك أطرافًا أخرى بالقضية؟ الكثير من الأسئلة والعديد من الإجابات يُقدمها لكم هذا الفيلم الرائع. عندما نتحدث عن عوامل الجذب المتواجدة في هذا الفيلم، حقًا يجب أن نأتي على ذكر الكثير. لكن بما أن مراجعة اليوم خالية من الحرق، فسنتحدث عن أشياء بعينها. أول شيء جذب انتباهي هو القدرة المذهلة للكاتب والمُخرج في أن يسحباني من الماضي إلى الحاضر بدقة متناهية وبراعة فائقة بدون أن أشعر بأن هناك فجوة زمنية كبيرة بالمنتصف شارفت على الربع قرن من الزمان. استطاع الفيلم أن يسرد العديد من الأحداث في الماضي، وقرنها بالحاضر، ثم دمج الزمنين سويًّا ليجعلني أنتقل بسلاسة من حدث إلى آخر وأستطيع تجميع خيوط الحبكة وثنياتها بطريقة لا تشوبها شائبة. الشيء الآخر هو فكرة الفيلم ذاتها.. أنْ يقف القاتل مُتبجحًا ليقول أنا هنا، بل ويكتب كتابًا كاملًا مُفصّلًا عن جميع جرائمه في حق الأبرياء ليُطلق على أفعاله تلك أنها (فن)، وفي النهاية الإعلام أغلبه يُمجده ويستغل شهرته الحالية في عمل الندوات وحفلات التوقيع والكثير والكثير من المقابلات التلفزيونية لكسب المال من خلف أفعاله غير الإنسانية.. تلك الفكرة وطريقة العرض الجديدة هذه حقًا لفتت انتباهي بشدة منذ بداية تقديمها في الأحداث. وفي النهاية، الشيء الأهم هو كسر الفيلم لجميع التوقعات مهما كانت جامحة إلى أقصى حد. أتذكرون روايات وأفلام الكاتبة البوليسية الشهيرة أجاثا كريستي؟ حيث في كل عمل فني لها يجب أن تتأرجح عقولنا بين عشرات الشخصيات باحثين عن مُرتكب الجريمة، لتدمر أجاثا كل توقعاتنا بدم بارد ليظهر أن القاتل هو أبعد شخص يُمكن أن يُلفت نظرنا إليه بأي شكلٍ ممكن؟ هذا الفيلم به العديد من الشخصيات التي تُعتبر ثانوية، لكن بين طياتها نجد العديد من الأسرار المدفونة منذ عقود. تخيلوا الآن أننا في قلب إحدى رواياتها المُفجِّرة للأدرنالين في العروق، فماذا سيحل بنا في النهاية؟ هذا ما سأتركه لكم. الشخصيات متوازنة بشكل أعجبني فعلًا. تم تقسيم الشخصيات إلى شخصيات رئيسية، ثانوية، ومتفرعة من الثانوية. وكان تسليط الضوء مناسبًا حقًا لأدوار تلك الشخصيات حسب فئتها التصنيفية. التصاعد الدرامي للشخصيات كان بديعًا، وفي الواقع لن أُبالغ إذا قلت إن الكاتب برع حقًا في نسج شخصيات جاذبة على الصعيد المادي والنفسي إلى أقصى حد، لتجعلنا لا نندمج في الأحداث فحسب، بل نتعاطف مع الشخصيات أيضًا بالرغم من كونها مُنفرة على الصعيد الأخلاقي. وهذا إن برهن شيئًا، فيُبرهن أن الكاتب استطاع توظيف شخوص عمله في اللعب على أوتار عاطفة المشاهد أكثر فأكثر حتى ضمن أن يُكمل معه الفيلم حتى النهاية. وهذه نُقطة يجب أن تُحسب للفيلم دون شك. لتمثيل كان على قدر كبير جدًا من الرصانة والدقة، سواء في مستوى تقمص الشخصية أو مدى تشعبها وتواصلها مع الشخصيات الأخرى بداخل المشاهد التي وُجِدت فيها. في هذه النقطة يجب أن أُشيد بالأداء الممتاز والمعهود من الممثل Hideaki Itô، فدوره يحتاج إلى رباطة جأش ورزانة كبيرة جدًا. والذي برهن على تلك الكفاءة التمثيلية التي لديه أن ذلك الدور يختلف عن دوره في فيلم Lesson of evil، حيث كان دورًا به نسبة كبيرة من الجنون والسادية. ثم يليه الممثل الجذّاب والمُتقن في أدواره وعباراته، Tatsuya Fujiwara. أدى الثنائي دور بطولة ثنائي أقل ما يُقال عنه إنه بديع وبه نسبة تجانس عالية جدًا، وفعلًا كان ممتعًا لي أن أراهما سويًّا في هذا الفيلم. أما سائر طاقم العمل فتراوحت مهارته بين المتدنية والمتوسطة. هنا يجب أن تكون لنا وقفة يا قوم. الفيلم من إخراج Yû Irie، وحقًا أسلوبه الإخراجي حابس للأنفاس بشدة. استطاع المُخرج أن يجد آلية إخراجية خاصة لمشاهد الماضي وأخرى مختلفة تمامًا لمشاهد الحاضر. وبين هذا وذاك برع بقوة في إحكام قبضته على أعصاب المشاهد عبر توزيعه المتناسق لوقفات الصمت خلال المشاهد، خصوصًا المغلقة منها. وعلى ذكر الأماكن المغلقة، الإخراج فيها كان على قدر من الرصانة الإخراجية بشكلٍ أذهلني. حقًا إخراج متوازن وأعجبني بشدة من جميع النواحي. حسنًا، هذه نقطة أُعيب عليها الفيلم. لم أستشعر الموسيقى التصويرية بالقدر الكافي في الأحداث للأسف. لكن من الناحية الأخرى، أرى أنّ عدم وجودها كان مناسبًا للعديد من المشاهد التي يُعتبر الوضع الأفضل لها أن يعمّها الصمت أو يعمّها الحوار غير المصحوب بموسيقى تصويرية. فيلم Memoirs of a Murderer حقًا من الأفلام اليابانية الرصينة والتي تجعلك متحفّزًا ومتحمسًا طوال فترة المشاهدة، لتُفجر عقلك في النهاية بأشياء لم تكن لتتوقعها على الإطلاق.
مشاركة :