لا تخلو المجالس والندوات في منطقة الخليج من أحاديث نجد صداها ينشر على شكل دراسات ومقالات في الصحف والمجلات الخليجية، وكلها تشير باستمرار إلى الطابع المشترك لمكوّنات هوية الخليج المتجانسة، ومدى تأثيرها في صياغة وحدة ثقافية تجمع بين سكان الإقليم، بفعل عوامل البيئة والتحديات المشتركة التي تظل العامل الأكثر بروزا وتأثيرا في تعزيز وتمتين ملامح الهوية الجماعية ذات الأبعاد العائلية والبيئية المتداخلة إلى درجة التماهي. ويضاف إلى ما سبق تأثير نمط الحياة الاقتصادية قديما وحديثا، وعلاقة ذلك بشيوع منظومة عادات وتقاليد مشتركة، تنعكس كذلك على الأزياء والموروث الشفهي والأمثال والمرويات الشعبية، إلى جانب ما يتصل بالأكلات والأطعمة التقليدية، وصولاً إلى الرموز والشخصيات التاريخية التي كانت جغرافية منطقة الخليج في مختلف العصور مسرحا لنشأتها وبطولاتها وسيرتها، قبل أن ترتسم الحدود السياسة التي فرضتها كأمر واقع ولادة الكيانات الحديثة. ورغم ذلك لم تؤثر الحدود السياسية على روح الهوية الجمعية التي تتشكل على مستوى جغرافية وديموغرافيا الخليج العربي، سواء في زمن الصيد والاعتماد على الغوص لاستخراج اللؤلؤ، أو في زمن النفط والتحوّل الاقتصادي الذي نعيشه اليوم. وإذا كان الحال كما ذكرنا يسري على النطاق الخليجي الواسع، فإنّ المشترك الحضاري والثقافي بين الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان يزداد تداخلا وعمقا بدرجات كبيرة، تصل إلى مستوى العلاقات الأسرية والعائلية وتقاسم العادات والأزياء والفنون، نتيجة للتاريخ المشترك والتلامس الجغرافي الذي يجعل من البلدين الأقل تباينا واختلافا عن الأقطار الخليجية الأخرى. لذلك كلما حدثت اختلافات مصطنعة يكون استغراب واستهجان وقوعها أمرا طبيعيا. وعلى قدر حجم وطبيعة القواسم المشتركة بين الإمارات وعُمان، يأتي الاندهاش والاستغراب تجاه أي انفعالات غير مبرّرة تحاول إحداث شرخ يتعمّد لأسباب مشبوهة الإضرار بالعلاقات المتينة بين الشعبين الإماراتي والعُماني. وفي الغالب يأتي الانفعال من طرف الأشقاء في السلطنة، إذ سبق أن تكرّر هذا اللون من القفز على الواقع أكثر من مرة، ودائما ما نحتاج في الإمارات إلى تذكير الأخوة في سلطنة عُمان بأن الحماس الذي يستخدمه البعض لشق الصف ليس مناسبا في جميع الظروف، فما بالك عندما يحدث في توقيت يستغل فيه المارقون عن البيت الخليجي كل ثغرة لتبرير انسلاخهم وإرضاء غرورهم الذي يجعلهم يبتعدون كل يوم عن العائلة الخليجية الواحدة مسافات شاسعة. ما يدفعنا في الإمارات إلى التعاطي مع كل الاندفاعات والتصريحات غير الحصيفة بلغة أكثر عقلانية والتزاما، وخاصة تلك التي مصدرها الشقيقة عُمان التي اشتهرت دبلوماسيتها بالحكمة والعقلانية. مناسبة هذا الاستهلال هي التصريحات التي جاءت على لسان مسؤول عُماني رفيع، كنا ولا نزال نحسبه من حكماء السلطنة ورجالها العقلاء، ونعتقد أن الحماس أمام ميكروفونات وسائل الإعلام دفعه إلى المبالغة والحديث بعبارات غير دبلوماسية، ويبدو أنّ قائلها لم ينتبه إلى أن منصبه يُضفي على تصريحه طابعا رسميا، وعندما يغمز ويلمز ضد دولة الإمارات وإن كان لم يذكرها بشكل مباشر، إلا أن الموقف بحد ذاته كان غير حكيم، ولا يجد له المتابع ما يبرره، وخاصة أن المتحدث يتقلّد منصب مستشار السلطان للشؤون الثقافية، وهو عبدالعزيز بن محمد الرواس. مناسبة التصريحات غير الحكيمة للرواس جاءت خلال تنظيم ندوة حول شخصية القائد التاريخي المهلب بن أبي صفرة. والندوة بدورها كانت بمثابة رد فعل غير منهجي وحدثا تمّت طباخته باستعجال، وذلك لمجرد أن الإمارات تكفّلت بإنتاج عمل درامي تليفزيوني عن شخصية المهلب بن أبي صفرة. وتحت تأثير من يحبّون إشعال الحرائق في وسائل التواصل الاجتماعي والتغريد بلغة الغربان المشؤومة، تابع الجمهور تصريح المسؤول العُماني الذي ظهر منفعلا وغير متفهّم للسياق الثقافي المشترك الذي يجعل من الشخصيات التاريخية ملكا للجميع. وحتى لو كانت الحقائق تشير إلى أن مسقط رأس المهلب بن أبي صفرة ينتمي إلى البيئة الإماراتية في وقتنا الحاضر، لن نختلف حول عالمية الشخصيات التاريخية وأن قيمها وبطولاتها تجعلها عابرة للأزمنة والجغرافيا. وبالتالي كان من الواجب على المستشار الرواس، بدلا من الحديث المبالغ فيه عمّا وصفه بالاعتداء على الأسلاف، أن يعيد تذكير عامة الجمهور بأن أسلافنا يخلقون بيننا في الإمارات وعُمان مشتركا حضاريا وثقافيا لا ينقطع رغم مرور السنين، لأن أولئك الأسلاف كانوا أبناء الجغرافيا الكبرى التي لم تكن تعرف الحدود ولا نزعات الاستحواذ الغريبة على التاريخ وعلى الثقافة الإنسانية المعاصرة. لا شك أن هذا الموقف العابر سينتهي مثل غيره من المواقف التي يحاول المغرضون إشعالها، ثم تنطفئ نيرانها بفعل العلاقات التي تربط بين الشعبين. لكن هذا لا يلغي الحق في العتب الأخوي، لأن المسألة لم تكن تستدعي ترتيب ندوة لكي يتم افتتاحها أو تذييلها بتصريح منفعل تناقلته صفحات من أدمنوا الصيد في الماء العكر. ألم يكن من الأفضل أن تتم الدعوة إلى تعزيز العمل الثقافي بين الإمارات والسلطنة، بدلا من المبالغة في صياغة ردود أفعال لا تتناسب على الإطلاق مع مبادرة الإمارات في تخليد شخصية تاريخية كان مدار حياتها مرتبطا بجغرافيا مشتركة وتاريخا يتسم بالمصير الواحد طوال العصور الماضية؟ إن التنسيق الثقافي بين الإمارات وعُمان إذا ما انطلق سوف يؤدي إلى فتح مجالات خصبة للبحث والتوثيق، ومن شأن الالتفات إلى هذا المستوى من العمل الثنائي بمصداقية وروحية عالية أن ينهي استغلال هواة إثارة الخلافات لهذا الملف وغيره. كما أن المدخل الثقافي يفتح آفاقا لتعزيز العلاقات والاتفاقات السابقة، ولا ننسى الاتفاق المشترك بين الإمارات وعُمان بشأن توثيق فن “العيالة” لدى اليونسكو كنمط مشترك. لأن التداخل الاجتماعي واشتراك قبائل الإمارات وعُمان في العديد من التجليّات الموروثة يجعل من التنسيق في العمل الثقافي مطلوبا كمدخل للتوثيق وإحياء التراث والمحافظة عليه بالتعاون بين المختصّين في البلدين. يمكننا في هذا السياق البناء على الجملة الوحيدة المفيدة التي وردت في تصريح المستشار، وهي قوله إن “التاريخ ليس إرثا لأحد”، رغم أنه يتناقض بعد ذلك مع نفسه ويدعو إلى احتكار الشخصيات التاريخية. وبعيدا عن الجدال لا بد أن نجعل التسامح يقودنا إلى التمسك بأواصر الأخوة الاستثنائية بين الإمارات والأشقاء في عُمان. رغم تكرار الإساءات والانفعالات غير المبررة من طرف البعض. ولأن “الشيطان يكمن في التفاصيل”، لوحظ أن المرجفين وعشّاق الخلافات العدمية كانوا في قمة نشاطهم وحاولوا اختراع أسباب للخلاف لم يتجاوب معها سوى الحاقدين. لذلك كانت المفاجأة غير متوقعة عندما ظهر مؤشر الاستجابة للضجيج على وسائل التواصل الاجتماعي عاليا لدى مستشار الشؤون الثقافية، الأمر الذي يتعارض بشدة مع الدبلوماسية العُمانية التي تشتهر بعدم تخلّيها عن الحكمة واتصافها على الدوام بالأداء الذي ينتهج التسامي والنظر إلى المستقبل. فعندما يعلن الإماراتيون، ضمنيا، فخرهم واعتزازهم بامتزاج جانب من هويتهم بالسياق الثقافي والتاريخي لعُمان، وعندما يتحدثون عن جذور وشخصيات تكشف أن للإمارات ارتباطا وثيقا بعُمان، من المفترض أن يدفع ذلك الأشقاء في السلطنة إلى الفخر. ولا ننسى أن “ساحل عُمان” أحد التوصيفات السياسية والتسميات المتداولة التي كانت تطلق على الإمارات في بعض الخرائط القديمة. والارتباط الثقافي والجغرافي والاجتماعي بين الإمارات وعُمان الذي نعتز به ونحافظ عليه، من المفترض أن يكون محلّ احتفاء النخبة العُمانية المثقفة، وأن يتمّ تعزيزه والبناء عليه وتطويره، بدلا من إطلاق التصريحات غير الحكيمة والسعي لتفكيك أواصره.
مشاركة :