المنيا (مصر) – أعادت السلطات الليبية إلى القاهرة الاثنين رفات عشرين قبطيا مصريا قتلوا على يد تنظيم الدولة الإسلامية. وكانت صدمة موجعة تلقاها المجتمع الدولي في العام 2015 عندما رأى 20 مصريا من العاملين في ليبيا، إضافة إلى مواطن من غانا، في زي موحد برتقالي اللون مكتوفي الأيدي من خلف ظهورهم، ساقهم إرهابيو داعش ليلقوا حتفهم ذبحا أمام ساحل البحر المتوسط، في مشهد أراد من خلاله التنظيم الإرهابي استعراض أبشع أساليبه قذارة. وقتها عاش أهالي قرية “العور” (ينحدر منها الضحايا) حالة من الحزن، الذي ازداد بعد أن فقدوا الأمل في رؤية جثامين ذويهم، لأن الإرهابيين أوهموا العالم من خلال التسجيل أنهم ألقوا الضحايا في مياه البحر المتوسط، وشفى غليلهم آنذاك رد الفعل السريع من الجيش المصري الذي استهدف طيرانه عددا من أماكن تمركز الجماعات الإرهابية والعناصر التابعة لداعش في ليبيا. وانحسرت الأضواء عن القرية، لكنها عادت مرة أخرة إلى دائرة الأحداث بعد إعلان السلطات الليبية نهاية سبتمبر الماضي إلقاء القبض على مصور عملية ذبح أقباط المنيا، ثم علت الفرحة وجوههم بعدما أعلنت السلطات الليبية عن عودة الرفات إلى مصر. وكان المكتب الإعلامي لغرفة العمليات “البنيان المرصوص”، أعلن أن الأجهزة المختصة نجحت في العثور على مقبرة جماعية لرفات الأقباط بمدينة سرت الواقعة شمال ليبيا وعددهم 21 جثة. عقب الإعلان عن العثور على رفات الأقباط، ذهبت “العرب” إلى المنيا بجنوب مصر، في رحلة استغرقت نحو أربع ساعات للوصول إلى قرية “العور”، وهي تبعد 340 كيلو مترا عن القاهرة. تتشابه القرى المتراصة على الجانب الأيسر من الطريق، في فقرها المدقع ودروبها المختنقة، خيمت الكآبة على القرية، وبدا أن الفكاك منها أمر بعيد المنال، وكان الصمت ثقيلا على شوارع ضيقة بدت شبه خالية إلا من عدد قليل من المواطنين. استقبل الأهالي خبر القبض على منفذ واقعة ذبح أبناء القرية والعثور على الرفات، ثم الإعلان عن عودته بسعادة، وتحول الحزن والعويل إلى رضا وارتياح يشوبه انتظار الانتهاء من الإجراءات التشريحية والقانونية لتسلم الجثامين. Thumbnail قالت مصادر رسمية في مدينة مصراتة الليبية التي نقل إليها رفات الضحايا، كان من المقرر عودتهم منذ العثور عليهم، لكن التأخير جاء بسبب عدم الانتهاء من الكشف الطبي الشرعي لهوية المصريين، وسوف يتم إعادتهم إلى ذويهم على متن طائرة حربية، بالتنسيق مع الجهات الحكومية والكنيسة المصرية. الانتظار والأمل من أقباط القرية شاركهم فيه مسلمون كثيرون تأثروا أيضا بالحادث، في قرية تقطنها نحو 500 أسرة، نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين. لم تعرف القرية بوجود نزاعات طائفية فيها على مدار تاريخها، عكس ما يحدث في قرى أخرى بالمنيا التي تصدرت واجهة الأحداث الطائفية، بصفتها أبرز الأماكن التي يعيش فيها الأقباط، وشهدت أحداث عنف وحرق كنائس عقب سقوط حكم الإخوان في 3 يوليو 2013. أثناء الواقعة المؤلمة التي جرت أحداثها على ساحل المتوسط في ليبيا، كانت شاشات التلفاز شاهدة على إلغاء المسافات، فأهل القرية من مسلمين ومسيحيين وقفوا داخل الكنيسة وفي سرادق عزاء واحد، وتنقلت سيدات مسلمات متشحات بالسواد من بيت إلى آخر، يحتضن الأطفال ويعضدن أم الشهيد، ويتبادلن كلمات العزاء. تحولت المواساة بعد حوالي ثلاث سنوات إلى تهنئة، فقد اقترب الأمل من أن يتحقق ليلقي الأهل نظرة أخيرة على ذويهم. وأكد كل من التقت بهم “العرب” أن المنازل لم تعد المكان المناسب لمقتنيات شهدائهم التي حرصوا على جمعها مبكرا، ووعدوا بنقلها إلى جوار جثامينهم لتذكير العالم بالمذبحة البشعة. عاشت أسرة مينا فايز، إحدى ضحايا المذبحة، ألما سكن بيوت عائلات أخرى، وبعد التصريحات الليبية ارتبكت مشاعرها، بين فرح العثور على الجثامين وأمل جارف في عودتها، وبكاء ناجم عن تذكر لحظات ذبح الأبناء. Thumbnail وضع فايز عزيز (والد مينا) جميع متعلقات ابنه في أحد جوانب المنزل وبجوارها تمثالان للسيد المسيح والسيدة مريم العذراء، وأشار بسبابته إلى سرير فارغ كان يشغله جسد مينا قبل السفر. وأوضح لـ”العرب” أنه دائما يشعر بشيء غائب عنه ولم يعثر عليه بعد، وكي يشعر بالراحة قام بوضع صورة مجسمة بحجم ابنه مينا وهو مرتدي الزي الكهنوتي لتكون أمامه ليل نهار تعوضه عن شوقه للابن الغائب. تمنى الأب أن يذهب إلى المكان الذي جرت فيه المذبحة ليحتضن الرمال التي ارتوت بدماء ابنه ويأتي لأمه بحفنة منها، فقد ذهب الوالد إلى سرت الليبية مرتين مع ابنه ويعرف أهلها جيدا وأنهم طيبون. قال الرجل الخمسيني، إنه بكى بشدة عقب تداول أخبار العثور على رفات ابنه، وخالجته مشاعر مختلطة أكثرها اشتياق لرؤية جسد ابنه بعد أن رحل غدرا، وتأكد أن الله استجاب لصلاته وابنه سيدفن بالقرب منه قبل حلول الذكرى السنوية الثالثة له. عفاف حنين (والدة مينا) ما زالت تتشح بالسواد مثل أغلبية نساء القرية، لا تعرف كم صار عمرها فقد توقفت الأيام لحظة موت مينا بتلك الطريقة البشعة، ولا تزال عملية ذبحه عالقة بذهنها وتقض مضجعها ليلا ونهارا. بلهجة صعيدية ونبرة يشوبها حزن وانكسار، أكدت لـ”العرب” أنها علمت بالعثور على رفات ابنها من أصدقائه عندما اتصلوا بها وقالوا لها إن جسد مينا سيأتي إليك، ومنذ سماعها الخبر وهي تأمل اللقاء من جديد، ووقتها شعرت كما لو كان ابنها لا يزال حيا. وأضافت أنها تتبارك بمقتنيات مينا، وحولت غرفته إلى مزار وضعت فيه جميع صوره ومتعلقاته، ولم تعترف الأم بموت ابنها، وتلقي كل يوم تحية الصباح والمساء عليه كأنه يعيش معها، وتتحدث معه كلما شعرت بأنها بحاجة إلى ذلك، وتشكو إليه إذا شعرت بالضيق من شيء. Thumbnail شهداء الإيمان والوطن تزامن الكشف عن عودة جثامين الضحايا مع الانتهاء من بناء كنيسة “شهداء الإيمان والوطن”، التي أمر الرئيس عبدالفتاح السيسي بتشييدها على نفقة الدولة، كي تبارك مسقط رأس الضحايا، لكنها ستكون مرقدا لرفاتهم، عبر إقامة مقبرة جماعية لهم داخل الكنيسة. ورصدت “العرب” أن أغلب أمهات وزوجات الشهداء يضعن على صدورهن أيقونات ذهبية مطبوعا عليها صور الشهداء بالليزر. إيزيس غطاس، من سيدات القرية، ابيضت إحدى عينيها من البكاء، لأنها فقدت نجليها بيشوي 25 عاما، وصموئيل 22 عاما، ولم تترك التجاعيد مكانا في وجه العجوز إلا ونالت منه، ماتت ضحكتها واستقر بدلا منها وجع في الوجه. جلست القرفصاء واستندت بظهرها على الحائط، وقالت بصوت خافت لـ”العرب” إنها سمعت عن العثور على الجثامين وعودتها إلى مصر من إحدى القنوات الدينية المسيحية، ومن حقها أن ترى رفات ولديها في وطنهما. لم تر العجوز مشهد ذبح ابنيها فهي لم تستطع رؤيتهما على تلك الحالة، لكنها شعرت بالفرح بعد أن دمر الجيش المصري مراكز تجمعات تابعة للإرهابيين في ليبيا وقتل عددا كبيرا منهم، مؤكدة أنها على يقين بوجودهما في مكان أفضل لا يمرضون ولا يضايقهم أحد هناك. لم يكن حال مريم شحاتة، زوجة ماجد سليمان إحدى الضحايا، أفضل حالا من الأم إيزيس غطاس، فهي لا تزال متكئة على حزنها لأنها لم تجد جدارا بحجم المأساة التي عاشتها لكي تريح رأسها الموجوع عليه. وصارت مريم بين ليلة وضحاها مسؤولة عن ثلاثة أبناء، هم: فيفي وصموئيل وميرنا، ولم تكن تتخيل أن يرحل زوجها قبلها وقالت بنبرة حزينة “لم أتفق معك على ذلك”. شعرت الزوجة بالسعادة وقالت بصوت امتزج بالبكاء لـ”العرب”، “الأمل عاد من جديد لوداع جثمان الحبيب الذي لم أستطع رؤيته ووداعه عند موته، وأنا الآن أنتظر أي شيء من رائحته، وسوف أنقل مقتنياته إلى الكنيسة التي ستضم رفاته لتكون مزارا للعالم بأسره”. تستعد الكنيسة المكتوب عليها “برسم بيعة شهداء إيبارشية سمالوط في ليبيا بقرية العور، 8 أمشير 1727- 15 فبراير 2017″ هذه الأيام لتجهيز مزار يليق بالشهداء، ليتباركوا بهم ويطلبوا شفاعتهم بالسماء. وأشار الأنبا مقار عيسى راعي كنيسة السيدة العذراء بقرية “العور” إلى أنه تم تأجيل تدشين كنيسة الشهداء منذ فترة، وأن الافتتاح الرسمي سيكون متزامنا مع وصول الجثامين، لأن المطرانية تجهز المكان الذي ستدفن فيه الجثامين داخل الكنيسة. Thumbnail وأوضح لـ”العرب” أنه تم استكمال بناء الكنيسة بقرية “العور” وهي مكونة من طابقين، أرضي وعلوي، وأصبحت مستعدة لاستقبال رفات جميع الأقباط، ومعه رفات الغاني ماثيو الذي كان يرافق المصريين في ليبيا وسيعامل معاملة جميع الشهداء لأنه شارك إخوته أكاليل الشهادة، وقدموا معا نموذجا رائعا من الفداء والثبات على الإيمان. لفت مقار إلى أن الكنيسة اتخذت عدة إجراءات لاستقبال رفات الضحايا، بينها إقامة قداس وداع وجنازة لائقة للصلاة عليهم، موضحا أن رفات الضحايا سيتم نقله مباشرة إلى الكنيسة عقب وصوله إلى مصر. كان موقع مزار الشهداء تم تحديده مسبقا بغرفة بجوار الكنيسة الصغيرة بالدور الأرضي لوضع صور ومتعلقات الشهداء بها، لكن بعد ظهور الجثامين تم إجراء تعديلات جديدة بتحويل الدور الأرضي إلى مزار كبير من الرخام لوضع جميع الجثامين في مقصورة واحدة، وسوف تلف جميعها بأكفان ويغطى المزار بلوح زجاجي كبير. الجثامين المعلن عنها كانت مكبلة الأيادي من الخلف بشريط بلاستيكي ومقطوعة الرؤوس، وبالزي البرتقالي الذي كان يرتديه الضحايا في التسجيل المذاع ومعهم أحذيتهم. من المخطط أنه فور انتهاء الطبيب الشرعي من عمله في مصر، يتم تسليم الجثامين إلى ذويها في المنيا، ويسدل الستار على جريمة أرّقت الرأي العام العالمي لما يقرب من ثلاث سنوات. وكشف عدد من الأهالي لـ”العرب” أنه كان هناك مقترح لتحويل اسم القرية إلى “قرية الشهداء” لكنهم رفضوا ذلك، لأن اسم قرية “العور” حصل على شهرة عالمية وتأتي إليها الوفود والمساعدات، وإذا تغير قد لا يستطيع الوافدون الوصول إلى القرية والتعرف عليها. حكى سمير بانوب (مزارع) أن الأهالي منعوا ذويهم من السفر إلى ليبيا، بعدما روعتهم واقعة الذبح، لكن سرعان ما تجاوزوا الصدمة وسافر بعضهم إلى هناك بعد أن طاردهم الفقر وتقطعت بهم سبل الحياة داخل القرية. وتواجه مصر أزمة في السيطرة التامة على حدودها مع ليبيا، ويتسبب ذلك في تهريب الأسلحة وهجرة العشرات من المصريين إلى ليبيا بحثا عن العمل. ولا توجد أعداد رسمية للعمالة المصرية في ليبيا في الوقت الحالي، لكن قبل فبراير 2010 أشارت بعض الإحصائيات إلى وصول عدد العاملين إلى نحو مليون ونصف المليون شخص. ويؤمن أغلب شباب قرى الصعيد بأن البحث عن عمل في بلاد غير مستقرة أفضل من الوقوع في فخ البطالة، وتنطلق رحلات أسبوعية من المنيا إلى مدينة سرت لنقل العشرات من الشباب، لأنهم يلقون معاملة حسنة من أشقائهم الليبيين هناك.
مشاركة :