تعيد الرواية، التي صدرت عن منشورات ضفاف في بيروت (2015)، وفازت بجائزة الدولة التقديرية للآداب في فلسطين مؤخرا، الكثير من الألق الحيوي إلى مجتمع مدينة القدس في النصف الأول من القرن الماضي، وترسم النسيج الاجتماعي لهذه المدينة في بناء سردي مُحكم، وشخصيات ذات أبعاد نابضة بالحياة وأسلوب قائم على المجاز والبلاغة المميزة، مستندة إلى عناصر من التاريخ القريب والبعيد، وعلى عمل بحثي دؤوب تمكنت من جعله جزءا مندمجا بعالم الرواية وفضائها الإنساني المتدفق. إن إعادة كتابة التاريخ روائيا تتطلب بحثا دؤوبا من قبل الكاتب كما تتطلب أيضا تلك الوصفة الضرورية للمزج بين التاريخي والمتخيل لتحقيق النص الإبداعي، الذي يختلف في جوهره عن النص التاريخي رغم تداخله معه. ولعل من أصعب الامور اليوم الكتابة عن تاريخ مدينة عريقة ومتداخلة مثل القدس. تتوغل ليلى الأطرش، عبر قصة حب مُحرّم بين كاهن وأرملة، في تاريخ القدس منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى ما بعد النكبة، إلا أنها تسرده بمنظور جديد، موظفة ما هو حقيقي ومتخيّل لتبني روايتها عن المكان والإنسان، وتحاول أن تنبه من خلال أحداثها إلى قيام الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية ببيع الأراضي الفلسطينية في القدس الشرقية بصورة سرية إلى متمولين يهود من خارج فلسطين المحتلة. تتلازم السياسة والدين في أحداث الرواية مع قصص البشر، ومن خلال شخصية “ميلادة” نقرأ سردا لتاريخ المدينة إنسانيا، قبل أن يكون أيدولوجيا، إذ تتولى هذه الشخصية سرد القصة الرئيسة، لكن القصص الفرعية تتوالى في الرواية، فما بين “ميلادة” الحفيدة، المخرجة السينمائية، و”ميلادة” العمة، العجوز المصابة بالزهايمر، نقرأ حكايات رسائل ووثائق وصورا تعود بنا إلى تاريخ القدس الذي ترويه الحفيدة. تقول الأطرش إنها حين شرعت في كتابة الرواية لم يكن في ذهنها هدف سياسي أو أيدولوجي أو تاريخي، بل أرادت أن تحكي قصص النساء وأحزانهن في تلك الفترة الزمنية. ذهبت إلى مدينة السماء لتكتب عنهن، وعن العلاقات الإنسانية والحب، والصراعات بين البشر، بعيدا عن الوجه الديني المشرق للمدن المقدسة الذي ترويه كتب التاريخ. كان في بال الأطرش سؤال ملح: لماذا تهمل هذه الكتب النساء عادة؟ إلا أن البحث والقراءة قاداها إلى التوغل في تاريخ المنطقة، فمزجت بينه وبين التاريخ المتخيل دون أن يتعدى أحدهما على الآخر. وقد زارت القدس ثلاث مرات خلال كتابتها للرواية، وتفحصت الأماكن التي تغيّرت ملامحها المخزونة في ذاكرتها، وتمشت في الحواري بين البيوت لتقيس المدة الزمنية التي يتطلبها المسير من نقطة إلى أخرى، حتى لا تبدو مثل شخص يكتب عن مكان لا يعرفه حقا. كما قامت بعدة رحلات إلى أوروبا اطلعت فيها على مجموعة من الوثائق كان أهمها الأرشيفان العثماني والبريطاني. التعايش السلمي عن سبب تركيزها على البعد المسيحي للقدس، تلفت الأطرش إلى أنها لم تتقصد ذلك، لكنها عندما بدأت البحث في الأرشيف العثماني وجدت أن عدد المسيحيين في القدس كان يفوق الخمسة وعشرين ألفا، وإذا أرادت أن تكتب رواية تتحدث عن ذلك الزمان فلا يمكنها أن تتجاهل هذا المكون الكبير ودوره في القدس. لكنها في الوقت ذاته تنفي أن تكون الرواية عن الوجه المسيحي للقدس، رغم أنه لا بد أن يظهر لأن دوره في القدس كان كبيرا في بداية القرن الماضي. والآن مع الهجرة قلّ المكون المسيحي إلى حد كبير، ولا زالت القضايا عالقة، وقد أرادت أن تصور علاقته مع محيطه الإسلامي واليهودي والأرمني، لأن القدس قبلت كل من كان يفد إليها. الرواية تسرد تاريخ القدس منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى ما بعد النكبة بمنظور جديد، يجمع الخيال بالحقيقة ورغم أن الطوائف المسيحية متعددة في القدس، فإن الأطرش لم تتناول إلا الأرثوذكس لأن هؤلاء هم من حاولوا وما زالوا، تعريب الكنيسة اليونانية وقياداتها اليونانيين، وهو أمر لم تجده عند الطوائف الأخرى. لذا كانت ردود فعل الكنيسة سيئة جدا تجاهها في بعض الجوانب. لم يتعرضوا لها لكنهم أهملوا الرواية، وقالوا إنها لم تنصف الكنيسة، وأعطت فكرة سيئة عنها، مع أنها في الحقيقة ليست كذلك، بل انتقدت بعض الأخطاء في الممارسات الكنسية. ولم تضع رقيبا ذاتيا على نفسها أثناء الكتابة، وإنما كتبت كما يجب أن تكتب الرواية دون اعتبار لما سيحدث في المستقبل ولكنها حمت نفسها من خلال الوثائق. إن ما هو مهم بالنسبة للأطرش، كما تؤكد، أن الرواية ركزت على التآخي والتعايش بين الطوائف المسيحية والمسلمة، فقد خرج العرب في مظاهرة لتعريب كنيستهم، قادها يوم الجمعة شيخ المسجد الأقصى، وهذا دليل على الترابط بين أبناء القدس الفلسطينيين، بغض النظر عن انتمائهم الديني. يُذكر أن رواية “ترانيم الغواية” سبق أن اختيرت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية عام 2016، وصدرت لليلى الأطرش ثماني روايات أخرى، نذكر منها “وتشرق غربا” (1988)، “امرأة للفصول الخمسة” (1990)، “ليلتان وظل امرأة” (1996)، “صهيل المسافات” (2000)، و”أبناء الريح” (2012). وتُرجمت بعضها إلى عدة لغات من بينها الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والكورية والألمانية والعبرية، ويُدرّس عدد منها في جامعات أردنية وعربية وفرنسية وأمريكية، وقدمت عنها رسائل جامعية عديدة في بلدان عربية، وفي إيران والصين والهند والباكستان.
مشاركة :