في سياق الاهتمام بالذاكرة البنانية على اختلاف تجلياتها أصدر «مركز التراث اللبناني» في الجامعة اللبنانية الأميركية كتاباً جديداً في سلسلة منشوراته الأكاديمية «الصورة ذاكرة الـمكان - رحلة 10 أيام بالكاميرا سنة 1965 في ربــوع لبنان»، للمصوّر الأميركي الراحل تشارلز كوشمان (1896-1972) وهوكان تـجوّل في المناطق اللبنانية قبل نصف قرن، والتقط صوراً طريفةً نادرةً لـوجوه ومناظر ومشاهد وشوارع، بعضها زال نهائيّاً، وبعضها الآخر تغيّرت اليوم معالـمه كليّاً أو جزئيّاً، ولـم تبق منها سوى الذكرى في صورة تحمل ذاكرة الـمكان. وضم الكتاب مقدمة ضافية كتبها مدير «مركز التراث اللبناني» الشاعر هنري زغيب بعنوان «سكوت جريح وسط عرس العاصمة». ويستهل زغيب كلمته في ما يشبه الوصف المشهدي: «في حيّ راق من قلب بيروت تسوّره الفنادق الفخمة: من الــ «فينيسيا» شمالاً، والــ «بالم بيتش» وسطاً، والـ «سان جورج» غرباً، والــ «فاندوم» جنوباً، مبنى كبير كئيب، كأنه قطار جاثم صدئت عليه السنوات في محطة نسيت من زمان صوت صفّارة القطار. اعتاد الناس المرور بهذا المبنى المهجور، من دون أن يستلفت أحداً أو يستوقف فضوليّاً يسأل عن حكاية هذا الصرح الذي لم يبق منه على جداره الميت إلّا حرفه الرمز، وشعار لـمعلم كان مقصد الطبقة المخملية في ستينات بيروت الـمشعّة بالحياة ليلاً أكثر من النهار». ويشير إلى أنه عندما تنبه له أخذ يقرأ في صمته العميق «ذكريات لا تزال مرسومةً بعنكبوت السكوت على جدرانه، في زواياه، في غرفه التي كانت يوماً سكنى روّاد وزوّار وسيّاح كم تذوّقوا حيويّة بيروت لؤلؤة الشرق على صدر المتوسط. هذا هو اليوم فندق «إكسلسيور». ويضيف: «حين هدتني لفتة غالية إلى موقع إلكترونـيّ فيه مجموعة صور عن بيروت قبل نصف قرن، دخلت إلى الموقع، فإذا هو مجموع صور بكاميرا الـمصوّر الأميركي الهاوي تشارلز كوشـمن (Cushman)، موجودة لدى قسم الفوتوغرافيا - برنامج المكتبة الرقمية - في أرشيـف جامعة انديانا حيث «مجموعات تشارلز كوشـمن الفوتوغرافيّة الكاملة»، وهي حصيلة جولاته المتعدّدة على عواصم ومدن كثيرة حول العالم، بينها مـجيئه إلى لبنان وجولته التصويرية. ويكون أنّ مجموعة كوشـمن اللبنانية من تلك الصور التقطها في بيروت، شاطئاً ومواقع وأحياء وشوارع، وفي نهر الكلب عبوراً، وفي جبيل قلعةً تاريخية، وفي بعلبك هياكل مهيبة. كل ذلك في جولة دامت عشرة أيّام فقط، من 1 إلى 10 أيّار 1965.ها نحن إذاً في صور نادرة للبنان قبل نصف قرن». كان لا بـدّ من العمل وفق القنوات القانونية، فراسل زغيب جامعة انديانا، وتواصل مع مدير قسم الفوتوغرافيا فيها: برادلي كوك (Bradley D. Cook)، فكان متعاوناً ومغتبطاً لصدور المجموعة الفوتوغرافية اللبنانية لدى جامعة لبنانية معروفة عالمياً، وتـمّ توقيع العقد بين جامعة انديانا والجامعة اللبنانية الأميركية، وبدأ العمل في تحضير هذا الكتاب لإصداره طباعيّاً كما يليق بتلك المجموعة النادرة. ويسرد زغيب حكاية فندق «إكسلسيور» وعلاقته بالموضوع. فثمة أكثر من صورة في مجموعة كوشمن، التقطها «عن سطح فندق إكسلسيور»، الـمطلّ على شطّ بيروت وعلى أبنيتها عهدئذ، وبعضها التقطه، من فوق، لـمسبح الفندق، وجميعها تدل على عراقة الفندق وفخامة بيئته. لكن الفندق لـم يعد موجوداً بين فنادق بيروت الفخمة الحالية. بدأ زغيب رحلة التقصّي، ولم يطل به الأمر حتى اكتشفه جاراً لفندق «بالم بيتش» الحالي، لكنه، «مبنى كبير كئيب، كأنه قطار جاثم صدئت عليه السنوات». في ذاكرة هذا الفندق أنّ صاحبه/المؤسّس بروسبير غيبارا، في 5 شباط 1955، تقدّم من «المفوّض العام للسياحة والاصطياف» بطلب يسأله فيه «تكليف من يلزم بإجراء الكشف» وإعطائه الرخصة المطلوبة لاستثمار «فندق فخم في بيروت» بعدما «انتهى بناؤه». ورقة الطلب تلك، حملت في أعلى زاويتها اليمنى، تفاصيل: أوتيل إكسلسيور- سبورتنغ كلوب - له كاف دي روا - ميناء الحصن - بيروت. ويروي زغيب كيف مر بالـ «إكسلسيور» الهامد، فرأى أن لـم يعد باقياً منه سوى حرف E على جدار مدخله المهدوم، وتحته بقايا شعار Les Caves du Roy، ولكن... لا الفندق باق هناك، ولا «الكاف دو روى». كلّ ما بقي: ذكريات حزينة من زمان الفرح في ذاكرة بيروت، وفي ذاكرة من يعمل على حفظ الذاكرة في تـراثنا الغنيّ. وبدا واضحاً من فخامة هذا الفندق أنّ كوشـمن سكن فيه، إبّان إقامته عشرة أيام في لبنان، وغادره حاملاً مجموعة الصور اللبنانية التي يـحضنها هذا الكتاب. قيمة هذه الصور اليوم، أنها تستعيد مناظر وواحات ومشاهد وأشخاصاً ومعالـم ولحظات كانت نابضةً بالحياة قبل نصف قرن من اليوم، بعضها ما زال باقياً مع تعديل أو تـحوير أو ترميم، وبعضها الآخـر اندثر كلّيّاً فغابت ملامحه ولـم تبق منه إلّا لحظة نوستالجيّة جـمّـدتها كاميرا ريتشارد كوشـمن ذات أيار 1965. ويرى زغيب أن مستوى هذه الصور، تقنيّاً، قد لا يكون ذا جودة فوتوغرافية عالية، على قدر ما كانت تكنولوجيا التصوير ومعدّاته قبل خمسين سنة، لذا كان ضروريّاً تمريرها على مختبر خاصّ لتنظيف الصور العتيقة وتنقيتها وفق أحدث التقنيات، كي تستعيد ما أمكن من وهجها ومعانيها ومدلولـها لحظة التقطها كوشـمن. فهو لم يكن مصوّراً محترفاً، بل هاوياً دار على العالـم يصوّر ما يحلو له، ولو بدون هدف معيّن مرسوم سلفاً.
مشاركة :