يتوقع الكثير من الحاضرين في مهرجان كان السينمائي من النقاد والصحافيين، حدوث بعض المفاجآت عند إعلان جوائز المسابقة الحادية والسبعين من المهرجان التي شملت 21 فيلما، جاء الكثير منها مخيبا للآمال، كما غابت التحفة السينمائية التي تلقى عادة الإجماع. ومن بين أفلام المسابقة ثلاثة أفلام من إخراج مخرجات، ورئيسة اللجنة تبدو متحمسة أكثر لمكافأة أفلام المرأة المخرجة، وربما تميل بالتالي إلى تخصيص جائزة أو أكثر لهذا النوع من الأفلام على حساب القيمة الفنية. وجاء فيلم “فتيات الشمس″ من إخراج الفرنسية إيفا أونسون، إلى مسابقة المهرجان تسبقه ضجة كبرى باعتباره العمل السينمائي الأول الذي يتناول جرائم تنظيم داعش ضد النساء الكرديات والأزيديات في شمال العراق بعد أن نجح في الاستيلاء على محافظات كاملة هناك قبل أربع سنوات. فتيات الشمس "فتيات الشمس" فيلم نسوي عن الحرب بروح العصر "فتيات الشمس" فيلم نسوي عن الحرب بروح العصر يعتمد فيلم “فتيات الشمس″ على وقائع حقيقية، وقعت في العام 2014 واستمرت حتى العام التالي، حينما تعرضت مجموعة من النساء تبلغ 7 آلاف امرأة وفتاة وطفلة في عمر الزهور للخطف والاغتصاب والبيع في أسواق النخاسة التي أقامها مقاتلو التنظيم في المدن التي كانوا يسيطرون عليها، ثم كيف تمكنت مجموعة صغيرة منهنّ من الفرار وتكوين فصيلة نسائية مقاتلة تقوم بعمليات جريئة بالتنسيق مع قوات البشمرجة الكردية ضد التنظيم. ولأن المخرجة صنعت فيلمها أساسا للجمهور الفرنسي، لذلك فهي تستخدم المدخل المعتاد في السينما السياسية الغربية بشكل عام، أي تستعين بشخصية مراسلة صحافية فرنسية هي”ماتيلد” التي أصبحت شاهدة على الأحداث وفقدت إحدى عينيها خلال الاشتباكات، وحرصت على نقل ما يحدث في ما بعد إلى الرأي العام الغربي، والفيلم بالتالي يروى من وجهة نظر “ماتيلد” إلاّ أن الأحداث تروى على لسان بطلة الفيلم “باهار” (تقوم بالدور الممثلة الإيرانية غولشفيته فراحاني) فهي تروي لماتيلد التي تدونها وتستعيد باهار خلال ذلك ما تعرضت له وأسرتها على أيدي مقاتلي داعش (مقتل زوجها واختطاف ابنها)، ثم كيف نجحت في تكوين الفصيلة النسائية المقاتلة من مجموعة من النساء اللاتي سبق أن وقعن في أسر داعش ونجحن في الفرار. لكن على الرغم من الدقة الشديدة في اختيار مواقع التصوير، وبراعة إخراج مشاهد القتال، إلاّ أن الفيلم جاء في معظمه عبارة عن مجموعة من الكليشيهات أو الصور النمطية، مع قدر كبير من المبالغات في إبراز قوة النساء والتفافهنّ حول باهار التي ألحق المسلحون ابنها بمقاتلي التنظيم. وهي تنجح في النهاية في شن عملية على أحد معاقل التنظيم وتحرير ابنها من الأسر، تحت أطنان من الشعارات والهتافات والعبارات، بحيث فقد الفيلم قدرته الدرامية على التأثير ليظل محصورا في إطار الدعاية المضادة. لازارو السعيد مزج بين الواقعية والخيال مزج بين الواقعية والخيال أما فيلم “لازارو السعيد” إخراج الإيطالية أليس رورواتشر، فهو أكثر طموحا من الفيلم السابق، فمخرجته عرفت بميلها إلى الأسلوب الطبيعي والولع بتصوير النماذج البشرية في الريف الإيطالي بما يحفل به من فولكلور واعتناق للخرافات والأساطير التي يقوم الكثير منها على أساس ديني، وهي تمزج هنا بين أساليب عدة مثل الواقعية السحرية والواقعية الاجتماعية. وتأخذك حينا إلى عالم الخيال، ثم تخرجك منه إلى الواقع، من خلال التواءات في الحبكة تجعل من العسير على المشاهد أن يفهم أو يدرك مغزى ما تقوده إليه، بغض النظر عن جمال الصور، وجاذبية النماذج التي تعرضها وخاصة نموذج الصبي “لازارو” الذي يؤمن أهل القرية بأنه يمتلك “قدرات خاصة”. كفر ناحوم يتشابه فيلم “كفر ناحوم” للمخرجة اللبنانية نادين لبكي في ملامحه الخارجية مع ملامح أفلام الواقعية الجديدة الإيطالية، فبطله طفل ينتمي لأسرة فقيرة تعيش على الكفاف في ذلك الحي البائس من أحياء بيروت “كفر نعوم”، تضطر لتزويج ابنتها وهي في الحادية عشرة حتى تتخلص من عبئها. أما شقيقها “زين”، فهو متمرد يرفض الخضوع لأسرته ويهيم على وجهه مع طفل رضيع هو ابن عاملة مهاجرة بشكل غير شرعي من إثيوبيا، وينتهي زين إلى قتل الرجل الذي تزوج شقيقته التي حملت منه، ثم أصيبت بنزيف حاد أفضى إلى موتها. ويتفرع الفيلم إلى فروع عدة، فهو يناقش قضية الأطفال المشرّدين، ومسألة غياب بطاقات الهوية بسبب غلاء سعر استخراجها على الأسر الفقيرة، وقضية اللاجئين غير الشرعيين الذين يتم استغلالهم من خلال شخصية المهاجرة الإثيوبية، وموضوع تجارة الأطفال، والتدهور العام في المجتمع اللبناني وعدم وجود أي ضمانات لحماية الأطفال. ورغم قوة الإخراج وبراعة التمثيل يعيب الفيلم تشتت الحبكة في خطوط كثيرة بعيدة عن الفكرة الرئيسية وكثرة الاستطرادات وتكرار مظاهر الفقر والفاقة وفوضى الشارع وارتباط زين بالطفل الإثيوبي “يانيس″، ومحاولته العثور على ما يدبر به تكاليف الحياة يوما بيوم، ولجوئه في سبيل ذلك إلى الاحتيال، وبوجه عام يسيطر الطابع التسجيلي على الفيلم الذي يمتد لأطول ممّا يتحمله الموضوع. ثلاثة وجوه "ثلاثة وجوه" وثلاثة أجيال إيرانية "ثلاثة وجوه" وثلاثة أجيال إيرانية يراهن الفيلم الإيراني “ثلاثة وجوه” لجعفر بناهي مرة أخرى على شهرة صاحبه الذي يقال لنا إنه ممنوع من العمل السينمائي، في حين يستمر هو على نحو احترافي كامل في صنع الأفلام، وإن كان لا يقدر على مغادرة إيران لحضور عروضه العالمية، كما أنه يصر على الظهور بنفسه في أفلامه الأربعة الأخيرة. وهو يسير هنا على طريق أستاذه كياروستامي الذي كان مغرما بصنع “الأفلام الريفية”، أي تلك التي تدور في الريف الإيراني وسط الجبال وبين القرويين الفقراء، والولع بالاعتماد على الممثلين غير المحترفين من سكان القرى، والمزج بينهم وبين الممثلين المحترفين، ويكشف بناهي خلال السرد عن بعض المعتقدات الشعبية السائدة لدى غالبية سكان الريف. والمدخل هو أن هناك فتاة ريفية شابة تدعى “مرضية” من سكان تلك المنطقة الجبلية تريد أن تصبح ممثلة، لكنها تقابل بالتجاهل فتشعر بالقنوط والإحباط فتقوم بتصوير نفسها بكاميرا الموبيل وهي تنتحر، وتبعث بصور انتحارها المفترض إلى الممثلة الإيرانية المعروفة بهناز جعفري وتذكر خلال ذلك اسم بناهي، وهي حيلة درامية أو مدخل درامي غير مقنع أصلا، فيمكن لأي شخص أن يدرك استحالة أن تبعث مرضية برسالة هاتفية بعد انتحارها، وهو ما تذكره جعفري نفسها في ما بعد، أي بعد أن تكون قد هرعت مع المخرج جعفر ناهي إلى تلك المنطقة الريفية بحثا عن مرضية ومعرفة ما الذي وقع لها، فيكتشفان أنها اختفت عن منزل الأسرة منذ ثلاثة أيام. ومن هنا يبدأ البحث في أماكن مختلفة على الطريق الجبلي الممتد الذي يربط بين عدد من القرى في شمال شرقي إيران، متعدّدة الأعراق والثقافات واللغات أيضا، فالكثير منهم لا يتحدثون سوى اللغة التركية. وخلال هذا البحث يسلط الفيلم الضوء على واقع المنطقة، وكيف ينظر أهلها إلى هذا الغريب القادم من العاصمة بصحبته تلك الممثلة المشهورة الجميلة، هل يمكن أن يكون لوجودهما تأثير على حياة السكان ولفت الأنظار إلى الحياة القاسية التي يعيشونها؟ هناك أيضا أحداث تكشف النظرة التقليدية السائدة المتخلفة إلى السينما والتمثيل، فشقيق مرضية ينتظر الفتك بها عند عودتها، ومرضية تمثل جيلا جديدا من الفتيات يعشق التمثيل، ولكنه لا يستطيع أن يصل لهدفه، لذلك تبتكر تلك الحيلة للفت أنظار بناهي إليها، أما الوجه الثاني، فهو وجه الممثلة المحترفة من الجيل الحالي بهناز جعفري، التي لا تستطيع أن تهضم في البداية هذه الفكرة المجنونة من جانب مرضية، وإن كانت تتعاطف معها وتشعر بها، ثم هناك الوجه الثالث لممثلة من العهد القديم، من زمن ما قبل الثورة الإسلامية، تدعى شهرزاد، لا نراها لكننا نرى المنزل الجبلي الذي تقيم فيه، ويروي البعض الروايات حول ما تعرضت له من متاعب سواء مع السلطة أو مع الأهالي، لكنها رفضت مغادرة المنطقة واعتزلت داخل منزلها. مربي الكلاب "مربي الكلاب" فيلم عن الضعف والقوة "مربي الكلاب" فيلم عن الضعف والقوة من أفضل أفلام المسابقة الفيلم الإيطالي “مربي الكلاب” للمخرج ماتيو غاروني (صاحب فيلم “غومورا” الشهير) وهو يتميز بواقعيته القاسية، ويبدو مخلصا لتقاليد الواقعية الإيطالية الجديدة. هنا تصوير ممتاز ليلا ونهارا في أماكن طبيعية.. في إحدى الضواحي الفقيرة لمدينة ميلانو، بطلنا هو فرنشيسكو وهو شخص ضعيف البنية يبدو أقرب إلى البلاهة، يعامل الكلاب في المحل الذي يستأجره كأطفاله، يبيت معها ويدللها ويعتني بها، كما أن لديه ابنة من زوجته المنفصلة عنه والتي لا تظهر سوى مرة واحدة في الفيلم. أما نقيض فرنشيسكو، فهو سوني العملاق المفتول العضلات، مدمن المخدرات الذي يروّع سكان المنطقة لدرجة أن بعضهم يتآمر للخلاص منه بالقتل، كما يهدّد فرنشيسكو حتى يأتيه بالمخدر من الموزعين الذين يعرفهم، فصاحبنا يتاجر أيضا في المخدرات كوسيلة لزيادة الدخل. ومع ذلك، لا يدفع سوني مقابل ما يستهلك من مخدرات، لكنه يعتمد على العنف والترويع اللذين لا يسلم منهما حتى صديقه فرنشيسكو، لكن الأخير رغم ذلك يقبل أن يستخدم سوني محله للنفاذ إلى محل الذهب المجاور وسرقة محتوياته على أن يقتسم الاثنان الغنيمة معا. وبعد اكتشاف الأمر يرفض فرنشيسكو أن يشهد ضد سوني وبذلك تلبسه التهمة ويقضي عاما في السجن، ويغادر ليطالب سوني بالوفاء بوعده، ولكن كيف يمكن للمدمن أن يمتلك خاصية الوفاء؟ هذا فيلم عن الضعف والقوة، الجشع والإدمان، الفقر والانتقام، البؤس الذي يحيك بالبيئة في تلك المنطقة المهملة تماما، وهو يمتلئ بالعنف شأن أفلام أخرى في المهرجان ومنها فيلم لارس فون تريير “المنزل الذي بناه جاك”، والذي يصل إلى أقصى درجات العنف السريالي المخيف. ويتميز “مربي الكلاب” بالأداء البارع للممثل مارشيللو فونتي في دور فرنشيسكو الذي ربما ينال جائزة أفضل ممثل. الفيلم الروسي “ليتو” أو “الصيف” من أفلام النوستالجيا أو الحنين إلى فترة التمرد في أوائل السبعينات في الاتحاد السوفييتي، أي في زمن الحكم الشيوعي، وكيف كان الشباب يمكنه التحايل ويخلق أشكالا جديدة للتعبير كالموسيقى الغربية الراقصة، وفي الفيلم مزج بديع بين الواقع والخيال، وبين الغناء والرقص وفكرة الحب المستحيل، وهو مصوّر بالأبيض والأسود (للشاشة العريضة) ويتميز بإيقاعه السريع وتكويناته التشكيلية الرائعة مع قوة الأداء، ولن يكون مفاجئا أن يفوز هذا الفيلم بإحدى الجوائز الرئيسية. وربما يحصل الفيلم البولندي “الحرب الباردة” لباول باولكوفسكي على جائزة ما، فهو أيضا يدور في زمن الشيوعية في بولندا الخمسينات، ومصوّر مثله بالأبيض والأسود، ولكنه يحافظ على مقاييس الشاشة في ذلك العهد أي نسبة 1 إلى 1.1 التي كانت سائدة. ويصوّر الفيلم علاقة موسيقار بمغنية شابة حسناء، وكيف تمتد هذه العلاقة بين شخصين غير متناسبين عبر سنوات طويلة، وإلى بلدان مختلفة، ويعكس الفيلم الرغبة في التحقّق عن طريق الغناء، والرغبة في الإفلات من الواقع الخانق البوليسي في بولندا، ولكن لمواجهة مشاكل من نوع آخر على الجانب الآخر. ويظل الخيط الأساسي عن العلاقة الغريبة المشحونة التي لا تكتمل أبدا بين الرجل والفتاة، وتستحق جوانا كوليغ في دور المغنية الشابة “زولا” جائزة أفضل ممثلة، ولكن للجنة التحكيم اعتبارات أخرى. وربما تحدث مفاجأة ما ويحصل الفيلم المصري “يوم الدين” على إحدى الجوائز الرئيسية، فالفيلم عمل متقن وموضوعه القوي جديد ومختلف ومعالج بأسلوب متمكن، وهو أحد أفلام الطريق التي تدور أيضا في محيط الواقعية، وبطله رجل مجذوم يخوض رحلة للبحث عن أسرته برفقة صبي صغير يرتبط به ولا يريد أن يفارقه. كما يمكن أن يفوز بالسعفة الفيلم الأميركي الممتاز “الكوكلوكس كلان الأسود” لسبايك لي، وهو أحد أفضل ما عرض في المسابقة، لكنه يستحق بالتأكيد مقالا منفردا.
مشاركة :